خذوا أسرارهم بعد رحيلهم

تنزيل (10).jpg
حجم الخط

بقلم عريب الرنتاوي

 

 

 

لولا طوفان المعلومات والوثائقيات التي تلت رحيل الملكة إليزابيث الثانية، لما تنبهت (وآخرون غيري) لحقيقة أنها لم تقم بزيارة واحدة لإسرائيل، رغم أنها زارت على امتداد سني حكمها السبعين، حوالى 120 بلداً، من بينها 13 دولة عربية .. زارت الأردن وعمان والإمارات مرتين، أولى زياراتها للأردن كانت مبكرة جداً في العام 1955، وقبلها بسنة واحدة، زارت عدن اليمنية وطبرق الليبية، وأدت أربع أو خمس زيارات للسعودية، ووجدت متسعاً من الوقت لزيارة كندا 27 مرة، في حين لم تجد فسحة منه لزيارة إسرائيل ولو لمرة واحدة، حتى وهي على ”مقرط عصا“ منها.
الأمر لافت بكل تأكيد، إذ يصدر عن (رأس الدولة) و(رأس الكنيسة)، لبلد أدى خدمات لإسرائيل والمشروع الصهيوني، لم يؤدها بلد آخر، إذ لولا ”الوعد المشؤوم“، لما قامت إسرائيل، أو لما قامت في الشرق الأوسط على أقل تقدير.
لا نعرف إن كان للملكة موقف من ممارسات إسرائيل العدوانية، ولا ندري إن كانت تجامل دولاً عربية صديقة لبريطانيا، أو أنها كانت تحسب حساب جالية عربية ومسلمة كبيرة في بلادها… لا ندري سبب هذا الإحجام، وإن كنّا لا نبرئ الحكومات البريطانية المتعاقبة خلال مئة عام، لا من وزر سايكس بيكو ولا من رِبقة الوعد المشؤوم.
على المقلب الآخر للأرض وفي الخندق المقابل، فتح رحيل ميخائيل غورباتشوف صندوق أسرار آخر، فكبير دبلوماسييه، فيكتور إسرائيليان، يروي في كتابٍ له، تفاصيل اللقاء الأخير بين آخر رئيس للاتحاد السوفياتي والرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، يومها جاء الأخير لموسكو طالبا العون لبناء ”توازن استراتيجي“ مع إسرائيل، يعوض به خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي.
الأسد المدين لموسكو بـ13 مليار دولار، جاء يطلب مزيداً من الأسلحة المتطورة، وعلى ”النوتة“، وفقاً لتعبير إخواننا المصريين، فما كان من صاحب ”البيريسترويكا“ و“الغلاسنوست“، سوى أن انفجر به موبخاً: السوريون يقفون في الطوابير للحصول على القليل من المواد التموينية الضرورية، في وقت تستورد فيه الدولة سيارات المرسيدس والبيجو وغيرها من لوازم النخبة الحاكمة من البلدان الأوروبية واليابان وكوريا الجنوبية بالعملة الصعبة، مذكراً ضيفه بمآثر الفيتناميين الحفاة، الذين كنسوا الاحتلال الأميركي عن بلادهم، بعد تكبيده 300 ألف قتيل، طالباً من مترجمه الداغستاني أن يقرأ عليه الآيتين 21 و22 من سورة النجم اللتين خاطب بهما الرسول كفار مكّة: ”ألكم الذكر وله الأنثى… تلك إذاً قسمةٌ ضيزى“.
لم يتغير الشيء الكثير بين ”الحليفين الاستراتيجيين“ منذ تلك الفترة، ففلاديمير بوتين لا يخجل من ”تصحيح“ الأسد الابن حين يتحدث عن ”التحالف الاستراتيجي“ ضد إسرائيل، بالإصرار على ”نفي“ فكرة ”التحالف“ أولاً، والتأكيد ثانياً، على أنه في سورية لقتال ”الإرهاب“ وليس للتصدي للعربدة الإسرائيلية، في مشهد يسترجع سخرية غورباتشوف من فكرة ”التوازن الاستراتيجي“ للأسد الأب.
كما لم يتغير شيء في سياسة بريطانيا طوال مئة عام، رغم ”تحفظ“ الملكة و“حذرها“، والأرجح أن شيئاً لن يتغير في المستقبل المنظور، سوى المزيد من الانحياز لإسرائيل، لا سيما بوجود رئيسة حكومة جديدة تعهدت بنقل سفارة بلادها من تل أبيب للقدس، وملك جديد، سبق له أن زارها أميراً وولياً للعهد، ومن غير المرجح أن يظل على حذر أمه وتحفظها.
إليزابيث الثانية ملكت ولم تحكم وطن الوعد المشؤوم، لكن يبدو أنها آثرت عدم الإيغال ”شخصياً“ في النكبة الفلسطينية.
أما غورباتشوف، ”الصديق الصدوق“، فقد حكم ولم يملك، لكنه آثر الفكاك من ”التحالف الاستراتيجي“، ولم يجد غير ”كفار قريش“ لاستدعائهم في حضرة ”الحليف“، وهو حوّل آخر لقاء له به، إلى ”جردة حساب“ ثقيلة وقاسية، تتعرق لها الجباه، وتضيق بها الصدور.