لم يعد اتفاق أوسلو قادراً على تشغيل النظام الذي اقترحه في تسعينيات القرن الماضي، الأفكار التي قادت بنود الاتفاق وملاحقه ووعوده تتساقط عن جسد النظام منذ وقت طويل، وها هو يبدو من هنا بعد ما يقرب من ثلاثة عقود مثل سرد مفكك بلا حبكة ولا أبطال.
لكنه وصل إلى نهايته بعد موت سريري طويل، خلال تلك الغيبوبة أنشأ الاحتلال واقعا مختلفا، جوهره يرتكز على إزالة الطبقة الخارجية من "الاتفاق" وتعميق وجوده، والاحتفاظ بالبندين الرئيسين، التنسيق الأمني واتفاقية باريس الاقتصادية.
الجانب الفلسطيني من الاتفاق واصل حمل الجثة والحديث معها وعنها، وبدا متعلقا فيها، الجثة، كما لو أنها غاية تكتسب وطنيتها من تنفسها وصوت أجهزة دعم الحياة التي تخفت مع كل تعثر للجنازة، ومن فكرة "الدولة" التي تحميها الجثة.
بينما على الأرض كان يتراكم بهدوء واقع جديد في مواجهة نظام الاحتلال واسترخائه وتخففه من أي شبهة للحديث عن حقوق فلسطينية، لم يتصرف الاحتلال يوما على أنه مؤقت، أو أنه احتلال، أو أن ثمة ما يمكن الحديث عنه خارج مشروع السيطرة والاستيطان والاستيلاء على كل شيء تقريبا.
الواقع الجديد في فلسطين ذهب أبعد من أوسلو، وأبعد من الدولة الموعودة على أقل من 28% من الوطن التاريخي، خرج من أوسلو تماما ولم يعد ممكنا إعادته إلى الزجاجة.
الحديث هنا لا ينحصر في تصاعد المقاومة وأدواتها، إنه يذهب إلى ثقافة الجيل الجديد الذي يقود هذه المقاومة ويبلور برنامجها، وليس الأمر، أيضا، هو سذاجة الحديث عن المنجز وبلاغة الانتصار، الأمر أيضا أعمق من ذلك، فهو قادم من تعثر التجربة وانسداد آفاقها، من فشل عمليات الترميم الكثيرة لـ"النظام" الذي تشكل حول الاتفاق، من خسارة الوعود ومن أن ذلك الطريق وصل إلى نهايته، ومن أنه ليس من الحكمة الحديث مع "الجثة".
تنهض المقاومة في الضفة الغربية من هذا الواقع، وهي تحمل أعباء "الانقسام"، وانحسار دور الفصائل وضعف السلطة الوطنية وتفكك منظمة التحرير، ولا تقدم نفسها بديلا لكل هذا، هي ابنة هذه المكونات، ولكنها تعيد رسم المشهد بمواد محلية وجهد فردي، أقرب لصناعة يدوية.
تطوف فكرة الوحدة كحاجة لا غنى عنها وتتحول إلى ثقافة شعبية، وحدة ميدانية تتقدم وتترك الانقسام والمنقسمين وأسبابهم خلفها، تترك المشيعين والمباركين وأيتام "النظام" و"أرامله".
الخطوة الهائلة التي تعبرها الآن، تجاوز هوية الفصيل وعصبوية التنظيم هو المظهر الأوضح للمشهد، برنامجها البسيط العميق هو المظلة التي تجعل من هذه الثقافة الفطرية الأصيلة بنية تحتية عميقة تحتفي بالوطني قادرة على البقاء ومواجهة الاحتلال في الزمن الذي سيبدأ، أو هو بدأ بالفعل.