بهدوء تام، في ظل تغطية اعلامية دنيا، اعاد الجيش الاسرائيلي، هذا الاسبوع، الى السلطة الفلسطينية عشرات جثامين "المخربين"، الذين قُتلوا خلال تنفيذ عمليات في الضفة الغربية في الاشهر الثلاثة الاخيرة.
حتى نهاية الاسبوع لم يتبقَ أي جثمان فلسطيني لدى الجيش الاسرائيلي. وهكذا تبددت، دون أن يرى احد، واحدة من خطوات العقاب والردع المركزية التي اقرها "الكابنيت" باحتفالية وضجيج كبيرين في اعقاب موجه "الارهاب" الفلسطيني الحالية. وزير الامن الداخلي، جلعاد اردان، الذي شجع على خطوة احتجاز الجثامين لا يزال يمكنه أن يواصل اختبار تأثيراتها المحتملة. فالشرطة، التابعة لامرته، تواصل احتجاز بضعة جثامين لـ"مخربين" قتلوا في شرق القدس، وفي نطاق الخط الاخضر. ولكنْ في الجيش مقتنعون بان مناورة الجثث لم تجدِ نفعا حتى اليوم. فمنع الجنازات لم يلجم دوافع "المخربين" التالية.
العكس هو الصحيح: رفض اعادة جثامين "المخربين" في الخليل ساهم على مدى بضعة اسابيع في تصعيد التوتر في المدينة، والذي قل بعض الشيء عندما بدأت اسرائيل باعادتها. كل قضية الجثامين، يقول ضابط كبير في الجيش الاسرائيلي، كانت سخافة تامة. ويشارك في هذا الرأي الكثيرون في القيادة الامنية. ثمة من يتعاطون بالنبرة الانتقادية ذاتها لخطوة اخرى اتخذتها الحكومة، هي استئناف سياسة هدم منازل "المخربين". لقد عادت اسرائيل الى هدم منازل "المخربين" في الضفة في صيف 2014، بعد تسع سنوات من توقفها التام عن ذلك. وفي الاشهر الاخيرة سرعت جدا وتيرة الهدم. ولا تزال المنفعة موضع خلاف، رغم أن رئيس الوزراء نتنياهو ووزير الدفاع يعلون يؤيدان هذه السياسة بالفم المليء.
اكثر من ثلاثة اشهر داخل المواجهة الحالية، والانتفاضة الثالثة التي لا يتجرؤون بعد على تسميتها باسمها، العنف هو حقيقة قائمة. فعمليات الدهس والطعن تجري على التوالي، في ظل توقفات قصيرة، وفي اعقابها ارتفاعات مفاجئة في عدد الاحداث التي يصعب على الاستخبارات تفسيرها. فالمظاهرات الجماهيرية، التي ظهرت هنا وهناك في الشهر الاول، كادت تختفي. وحسب معطيات المخابرات، التي نشرت، أول من أمس، فقد طرأ انخفاض طفيف في عدد العمليات الاجمالي في كانون الاول، مقارنة بالشهر الذي سبقه. وبالمقابل، ارتفع بقدر ما معدل عمليات اطلاق النار. والميزة الابرز للعنف، الذي يضرب بين الحين والآخر غرب الخط الاخضر ايضا (مثلما في يوم الجمعة الماضي في مركز تل أبيب) تتعلق بمنفذيه. فالغالبية الساحقة من "المخربين" لا يزالون يعملون بمفردهم، بلا مراتبية تنظيمية خلفهم، حتى عند الحديث عن عمليات اطلاق النار. وكثفت "حماس" نشاطها وامتشقت من السبات بعضا من خلاياها "الارهابية" القديمة، ولكن انجازاتها قليلة حاليا، في ضوء الجهد المضاد المشترك الذي تقوم به اسرائيل والسلطة. ونشرت المخابرات، أول من امس، انها اعتقلت خلية ارهابية اخرى لـ"حماس" من الخليل ومن شرق القدس، يشتبه باعضائها في التخطيط لعملية خطف وقتل مواطن اسرائيلي، بهدف خوض مفاوضات على اعادة جثته مقابل تحرير سجناء فلسطينيين محبوسين في اسرائيل.
حتى الآن لم تظهر خلافات داخلية بارزة في موقف الطرف الاسرائيلي من المواجهة. فقد ساند نتنياهو ويعلون موقف رئيس الاركان، غادي آيزنكوت، الذي سعى الى الاكتفاء بخطوات رد محدودة على تصاعد العنف والامتناع عن حملة واسعة، بدعوى أن لا وجه شبه بين ارهاب "السكاكين" الحالي و"ارهاب الانتحاريين" في الانتفاضة الثانية. ينظر آيزنكوت وضباطه الكبار بسخرية ما الى المطالب بحملة جارفة على نمط "السور الواقي 2" في الضفة ويتساءلون ماذا ستجدي عملية لمصادرة كل سكاكين المطبخ في رام الله او الخليل، حين يعتقل الجيش الاسرائيلي كل ليلة على أي حال عشرات المشبوهين للمشاركة في "الارهاب" والعنف الشعبي. فامكانية عملية واسعة في منطقة محددة، مثل الخليل، قائمة، ولكنها لا تتخذ حاليا طالما بقي عدد المصابين في الجانب الاسرائيلي لا يصل الى حجم يخلق ضغطا سياسيا ناجعا على الحكومة.
كما أن الانتقاد الذي تطلقه المعارضة من اسحق هرتسوغ وحتى افيغدور ليبرمان، على أداء نتنياهو في مواجهة "الارهاب"، هو انتقاد عمومي في اساسه ولا يقترح بدائل عسكرية عملية. عضو "الكابنيت"، وزير التعليم نفتالي بينيت، الذي روج في الاسابيع الاولى لرد عسكري صلب وواسع، خفض منذئذ النبرة، وغرق في هذه الاثناء في الانشغال بآثار قضية الارهاب اليهودي في دوما او كبديل في مراقبة كتب القراءة في المنهاج التعليمي للادب في المدارس الثانوية.
ولكن نشأت الآن امكانية كامنة لبعض التوتر بين القيادة السياسية والعسكرية. وكما أفادت "هآرتس"، أول من أمس، فان اذرع الامن تشخص في الشهر الاخير تغييرا ايجابيا مهما في اداء السلطة الفلسطينية في المجال الامني. فالتحريض في وسائل الاعلام الرسمية في "المناطق" أقل، والتنسيق الامني مع اسرائيل تحسن، ورجال التنظيم لا يشاركون في المظاهرات، بينما نشطاء الاجهزة عادوا بالبزات الى مراكز الاحتكاك كي يمنعوا المواجهات بين المتظاهرين والجيش الاسرائيلي... والمفارقة هي أن كل هذا النشاط، الايجابي بحد ذاته بعيون اسرائيلية، لم يؤد حتى الآن الى أي انخفاض في شدة "الارهاب" نفسه. فالخطوات التي تتخذها السلطة ببساطة لا تؤثر على ضاربي السكاكين والداهسين، وان كان يبدو انه توجد لها اهمية في منع الانتقال الذي تخططه له "حماس" من انتفاضة بالسلاح الابيض الى انتفاضة مسلحة.
على خلفية التحسن في سلوك السلطة، والى جانبه الخوف من تحقق سيناريو متطرف لانهيارها في سياق السنة، يتعاظم التأييد في الجيش الاسرائيلي – في هيئة الاركان، في قيادة المنطقة الوسطى، في شعبة الاستخبارات وفي جهاز تنسيق الاعمال في "المناطق" – لمنح بادرات طيبة وتسهيلات في السلطة، رغم استمرار موجة "الارهاب". وهنا يدخل الجيش الى مستنقع مغرق. فنتنياهو لا يؤمن حقا باستئناف المسيرة السياسية، وهو حساس جدا لكل تنازل من شأنه أن يعتبر كابداء للضعف او استسلام امام استمرار "الارهاب". اما يعلون، الشريك في الشكوك في احتمالات التقدم في القناة السياسية (يؤمن بان الشعر سينبت في يديه قبل ذلك) فمستعد لأن يخاطر مع ذلك ببادرات طيبة ولكن هذه على ما يبدو بعيدة الاثر بقدر أقل من التسهيلات التي بحثت في الجيش، وعلى أي حال لم يتبلور قرار بعد. فقد اكتسب الجيش الاسرائيلي خبرة من غضب السياسيين حين تجرأ على التلميح بانه مطلوب عنصر سياسي لاخماد النار. فالعميد غاي غولدشتاين، نائب منسق الاعمال في "المناطق"، الذي قال اقوالا مشابهة في محاضرة في كلية نتانيا في تشرين الثاني، لم يظهر امام الجمهور منذئذ. وعندما أعرب قائد المنطقة الوسطى، روني نوما، عن تأييد مبدئي لاستبدال السلاح الخفيف لدى أجهزة الامن الفلسطينية وتزويدها بسيارات جيب محصنة تسمح لها بالدخول الى مخيمات اللاجئين في الضفة، سارعوا يعلون وآيزنكوت الى الشرح بان الصحافيين اخرجوا الاقوال عن سياقها.
ومع ان الانشغال الاعلامي بانهيار السلطة تحول هذا الاسبوع من نظري الى واقعي، في اعقاب مع نشر في "هآرتس" عن المداولات في "الكابنيت" في الاستعدادات الاسرائيلية للانهيار، فان معظم أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية لا تعتقد بأن الامر سيحصل قريبا. ومع ان الرئيس الفلسطيني، محمود عباس (ابو مازن)، يبدي مؤخرا تراجعا معينا في مستوى الاستماع، المشاركة، والطاقة التي يبثها، ولكن بقدر ما تتعلق الامور به فان عباس لا يعتزم السماح بانهيار السلطة. بعد السلطة، قال الرئيس الفلسطيني في خطاب في بيت لحم، ستأتي فقط دولة فلسطينية.
الخطر الاساس لانهيار السلطة – سيناريو حتى نتنياهو بدأ يصفه مؤخرا كخطير – يكمن في اليوم التالي لعباس. فالرئيس الفلسطيني قد يحاول الدفع الى موقف الخلافة بتحالف صغير من بعض مقربيه، بينهم رئيس جهاز المخابرات العامة ماجد فرج ومندوبه في المفاوضات السياسية، صائب عريقات. ولكن نقل الحكم اذا ما حصل في المستقبل، سيصطدم بمعارضة قاطعة من مسؤولين كبار آخرين، ما سيهز استقرار السلطة. ومنذ الآن تعتبر رام الله فقاعة سياسية واقتصادية منقطعة عن الواقع اليومي الاصعب الذي يعيشه السكان في مناطق اخرى في الضفة، ناهيك عن قطاع غزة.
ولكن يحتمل أن تكون المشكلة الاولى للسلطة – وبالتأكيد تحت الخلفاء المستقبليين لعباس – مسألة الشرعية الدستورية لحكمها. فمنذ عقد لم تجر انتخابات في "المناطق"، والسلطة تواصل السيطرة في مناطق مسؤوليتها في الضفة بقوة الذراع وبحكم التمديد العملي لصلاحياتها، التي من المشكوك فيه أن تكون قادرة على اجتياز الاختبار القضائي. فالوضع القانوني المركب يسحق التأييد الجماهيري الفلسطيني للحكم، وينضم بذلك الى الادعاءات الثابتة عن الفساد والانتقاد على أنها لا تتخذ خطا صلبا بما يكفي ضد استمرار الاحتلال الاسرائيلي. وهذا هو احد الاسباب للبيانات المتواترة التي يصدرها عباس حول الوصول الى اتفاق مصالحة جديد مع "حماس"، بعد أن انهارت الاتفاقات السابقة، وبشأن الحاجة الى اجراء انتخابات جديدة في "المناطق".
عمليا، صعب جدا التصديق بان تخرج انتخابات ديمقراطية تحت رقابة دولية الى حيز التنفيذ قريبا، في ضوء الانشقاق الجغرافي بين الضفة والقطاع والعداء الشديد بين السلطة و"حماس". ولكن عباس، الذي حل محل عرفات في العام 2004، يشعر منذ الآن بتآكل مكانة المؤسسات الفلسطينية في ظل عدم اجراء الانتخابات. هذا هو العائق الذي سيصبح عاليا وملموسا اكثر في المستقبل، عندما سيدخل خلفاؤه الى الصورة.
عن "هآرتس"