مقدمة
1- في علاقة المسلمات الوطنية بالبرنامج
2- في منطق البرنامج المرحلي
3- «حل الدولتين»(!)
4- البرنامج المرحلي: الصعوبات تزكيه، وليس العكس
5- البرنامج المرحلي: وحدة الساحات وتكامل أشكال النضال
6- تعزيزاً لراهنية البرنامج المرحلي
أواخر أيلول 2022
مقدمة
المشروع الوطني الفلسطيني هو المشروع الكفاحي الهادف إلى تمكين الشعب الفلسطيني، كل الشعب الفلسطيني، من ممارسة حقه في تقرير المصير بحرية على كامل ترابه الوطني، الأمر الذي تحققه بشكل ناجز دولة ديمقراطية موحدة، تسود المساواة بين مواطنيها، أكان في الحقوق أم في الواجبات، بعيداً عن أي شكل من أشكال التمييز العنصري، أو القومي، أو الديني، أو الإجتماعي، أو الجندري.
لقد علَّمت تجربة عقود من النضال، بعد نكبة الـ 48، أن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي أكثر صعوبة وتعقيداً من أن يجد حَلَّه دفعة واحدة لأسباب عدّة، لسنا بوارد الخوض فيها في هذه العجالة، جميعها مهمة، ومعظمها فائق الأهمية، أكانت محلية، أم خارجية؛ وانطلاقاً من هذا الإدراك، كان لا بد للفكر السياسي الفلسطيني أن يبحث عن إستراتيجية، تفتح أمام الحركة الفلسطينية آفاق التقدم نحو إنجاز الحقوق الوطنية، فوجدها في المقاربة المرحلية التي توقفت أمامها، وأجابت عليها برنامجياً دورات متعاقبة للمجلس الوطني الفلسطيني، بدءاً من دورته الثانية عشرة في منتصف العام 1974، ما جعلها – عملياً – برنامجاً للإجماع الوطني، ولو بعد حين.
ولعل النص الذي تقدمت به الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في برنامجها السياسي لهذه المقاربة المرحلية، أو «البرنامج الوطني المرحلي»، هو أكثرها وضوحاً وملموسية. إذ دعا إلى ما يلي: «في الظروف الراهنة، وفي ظل واقع التبديد والتشريد والإحتلال الإستيطاني والتمييز العنصري الذي فرضه العدوان الصهيوني على شعبنا، فإن الظفر بحق تقرير المصير يتطلب مرحلياً ما يلي:
أ) تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان حزيران (يوليو) 1967، وتأمين الجلاء الإسرائيلي التام عنها، وتمكين دولة فلسطين من نيل إستقلالها وممارسة سيادتها الكاملة على أرضها المحررة، بما فيها العاصمة القدس.
ب) إقرار حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي شردوا منها منذ عام 1948، واستعادة ممتلكاتهم عملاً بقرارات الشرعية الدولية، وبخاصة قرار الجمعية العامة الرقم 194.
جـ) ضمان حق المساواة القومية لجماهير الشعب الفلسطيني داخل حدود 1948، والإعتراف بهويتها القومية كجزء من الشعب الفلسطيني الموحد، وتمتعها بكامل الحقوق المدنية، السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، على قدم المساواة مع سائر المواطنين.
إن وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة حقه في تقرير المصير، على تباين الظروف التي تعيشها مختلف تجمعاته، تجعل من التقدم والنجاحات التي يحرزها نضاله، على أي من هذه المحاور الثلاثة، تعزيزاً ودعماً لنضاله الوطني التحرري على المحورين الآخرين.»
الأسئلة التي يثيرها موضوع المشروع الوطني الفلسطيني كثيرة، ومن بين الأسئلة التي تحاول هذه الورقة الإجابة عليها، نشير إلى ما نعتبره أهمها: هل ما زال البرنامج الوطني المرحلي هو التعبير الراهن عن المشروع الوطني؟ هل البرنامج المرحلي هو الذي ما زال يخاطب جميع الفلسطينيين، مستجيباً للمصلحة الوطنية العامة ولمصالحهم الخاصة في آن معاً، آخذين بالاعتبار الجدران الشاهقة، الفاصلة بين مختلف تجمعاتهم؟ هل ما زال هذا البرنامج يملك حوامل وطنية، داخلية وخارجية، تسمح له بمواصلة شقّ طريقه؟ ... وأخيراً، وليس آخراً، كيف يمكن أن نعزز راهنية البرنامج المرحلي، وصولاً إلى رد الإعتبار إليه، بعد أن جرى إنتهاكه على يد بعض من كان قد ساهم في بلورته ؟
(1)
في علاقة المسلمات الوطنية بالبرنامج
بداية لا بُدَّ أن نعترف، وأن نُسلّم بما يلي: بعد مضي ستة عقود على إنطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، ما زال النقاش يدور في صفوفها حول تعريف «المشروع الوطني»، بعد أن سادَ الإعتقاد أن هذا الموضوع قد حُسِمَ – كما أسلفنا - منذ مطلع سبعينيات ق 20، لصالح إعتماد «البرنامج الوطني المرحلي».
وإذا كان للأوضاع الصعبة التي تواجه العمل الوطني دورها في هذا الأمر، فإن السبب الأهم لتجدد هذا النمط من النقاش، يعود إلى إتفاقيات أوسلو التي جرى الترويج لها على أوسع نطاق، باعتبارها الطريق، الآلية التي تقود إلى تحقيق البرنامج المرحلي، أو للتقدم بشكل ملموس نحو تحقيقه بالحد الأدنى. ليتضح أن عملية التسوية ذات المرحلتين التي قامت عليها أوسلو، لم تتجاوز حتى ما نصَّت عليه مرحلتها الأولى، المسماة إنتقالية، بما هي حكم إداري ذاتي محدود الصلاحيات.
أما المرحلة التي تلي، أي الوضع الدائم، فليس هناك في الإتفاقيات الموقعة نصٌ يُلزِم، ولا كفيل يضمن الشروع بهذا الوضع، ناهيك عن إتمامه. فتحوَّل الوضع الإنتقالي إلى دائم، لا شيء يُمكن أن يعترض سبيله، أو يلغي مفاعيله، سوى نهوض مقاومة فاعلة في وجهه، تسمح بعكس المسار.
وفَّرت عملية أوسلو، خاصة بعد أن إستبان في وقت مبكر فشلها، وتمدد الإستيطان ومعه التهويد مضاعفاً في ظلها، مادة سجالية غزيرة للنيل من البرنامج المرحلي، ما شرَّع الأبواب أمام البحث عن تعريف آخر للمشروع الوطني، تحرك – بالإتجاه العام – بين إستعادة مقولات «التحرير الكامل»، وبين رؤية «الدولة الواحدة بحقوق متساوية لمواطنيها». غير أن المشكلة في الطرحين، أن الأول يعتمد، حتى يستوفي نصابه، على شرط خارجي حليف، مُرحب بانعقاده بكل تأكيد، إنما قراره، توقيته وسياقه سيكون – بداهة – بيد أصحابه؛ والثاني يخدم، في الظرف الحالي، مشروع «إسرائيل الكبرى بحقوق غير متساوية»، الذي يقرن الضم بالأبارتهايد. فليس من الحصافة بشيء، إفتراض قبول العدو – بناء على نسبة قوى متخيّلة – بمبدأ «الحقوق المتساوية» الذي لا يعني أقل من تقويض مرتكزات النظام السياسي الصهيوني القائم.
إذا كان من الطبيعي أن يتمسك بطرحه كل صاحب رأي، أو أي متحيّز لمشروع، ويدافع عنه، فلا غضاضة في ذلك، إنما بشرط عدم التجاوز على مسلمتين تشكلان معاً الشرط اللازم لمواجهة مؤثرة للعدو، ولا تحتاجان في الوقت نفسه – لبديهيتهما - إلى طول إثبات، ومن هنا نجدهما عابرتين لجميع البرامج والطروحات: الأولى هي صون وحدة الشعب، والثانية هي توفير شروط تنظيم الشعب وتعبئة طاقاته في المعترك الوطني، علماً أن هاتين المسلمتين تمثلان وجهين لنفس الموضوع. فوحدة الشعب هي الشرط اللازم لتنظيمه وتعبئة كل طاقاته، والأخيرة لا تكتمل إلا بوحدة الشعب.
إن التعبئة الأكثر شمولاً لطاقات شعبنا في معادلة الصراع. تكون من خلال مؤسساته الوطنية الجامعة، المستندة إلى توافق وطني، تلتقي عنده وتتقاطع الرؤية الإستراتيجية مع خطة العمل المشترك. ومع ذلك، فقد أثبتت وقائع الحياة، أنه بإمكان الحالة الفلسطينية أن تحرز درجة عالية في تعبئة طاقات الشعب في معارك المواجهة الواسعة مع الاحتلال، كما حصل إبَّان «معركة القدس»... 13/4–21/5/2022، التي خاضها شعبنا موحداً في الوطن بجناحيه– 48 + 67، والشتات بساحاته، بمختلف أشكال النضال التي تراعي شرط المكان. إن هذه الظاهرة، في الحالة الفلسطينية، ما هي إلا إنعكاس لحقيقة موضوعية تتمثل بوحدة مجتمعية، ما زالت عصيّة على الصدع، رغم الإنقسام السياسي والمؤسسي الممتد.
هذه الوحدة المجتمعية التي تعكسها هوية وطنية جامعة، إزدادت تبلوراً في العقود الأخيرة، وتعمقت مضامينها التاريخية والثقافية والنفسية والمسلكية، على خلفية إدراك عميق لمكامن المصلحة الوطنية، ما يوفر قاعدة جدية تقوم عليها وحدة الحركة الجماهيرية، إن كان في إطار مؤسسي - إن توفر - أو في الميدان في خِضَمّ المواجهات الوطنية مع الاحتلال والإستيطان أولاً، كما وفي معارك الدفاع عن الحريات العامة وسائر القضايا المطلبية والإجتماعية
(2)
في منطق البرنامج المرحلي
طالما سادَ الإنقسام ساحة العمل الوطني، فإن الإلتزام الصادق بمسلمتي وحدة الشعب + تعبئة طاقاته في معركة التحرر الوطني، ينزع عن الخلافات الناجمة عن تجاذب مختلف البرامج المطروحة، طابعها الإصطفافي المتوتر، ويوفّر أجواء صحية للحوار حولها بأسلوب مثمر.
من جهتنا، ما زلنا نعتقد أن البرنامج الوطني المرحلي هو الأكثر تلبية للمصلحة الوطنية الجامعة، والأكثر قدرة على توحيد الشعب وتعبئة طاقاته في مختلف الساحات، والأكثر جدوى في إجتذاب التأييد الخارجي لحقوقنا الوطنية، خاصة بعد أن شق هذا البرنامج طريقه منذ عقود في محافل الدول والمؤسسات الدولية، واستقر في مبنى قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالحقوق الوطنية الثابتة وغير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني. وهذا ما يسلم به – على أية حال – عديد المتمسكين بالبرامج الأخرى، عندما يكونون بصدد التعامل مع القوى والدول والمؤسسات الفاعلة خارج البيئة السياسية الفلسطينية، فلا يرون حرجاً في إعتماده أساساً، أو إطاراً للتسوية السياسية، ولو علقوا موقفهم هذا – في بعض الأحيان – على أمور ليست من صلب الموضوع، على غرار: هل تضمنون تنفيذ البرنامج المرحلي، فيما لو أعلنا موافقتنا عليه(!).
البرنامج الوطني المرحلي كان وما زال، قبل كل شيء، برنامج الإعداد والتأطير للإنتفاضة الشعبية الشاملة، باعتبارها الشكل الفلسطيني المميز من أشكال حرب الشعب. وفي هذا لا تقلل الإنتفاضة من شأن وتأثير الكفاح المسلح المواكب لها، كما وأشكال النضال الأخرى، وفي القلب منها كفاح الحركة الأسيرة، بل تؤكد دورها كروافع فائقة الأهمية لاستنهاض الإنتفاضة الشعبية وتزخيمها، واستنزاف الإحتلال، وصولاً إلى العصيان الوطني الشامل.
إن تسليط الضوء على الإنتفاضة – باعتبارها الصيغة النضالية الفلسطينية لحرب الشعب في مواجهة العدو - تأكيداً للدور المقرر للحركة الجماهيرية في إحداث التغيير اللازم في نسبة القوى للخلاص من الاحتلال والإستيطان، إنما يرسخ فكرة الإعتماد على الذات، ويقود إلى إدراج مهمة تحشيد وتنظيم القوى الذاتية في مقدمة مهام وإهتمامات الحركة الفلسطينية. إن البرنامج المرحلي هو برنامج تعبئة وتنظيم القوى الذاتية، والإعتماد على الذات، من موقع الثقة بطاقات الشعب وقدرات الحركة الجماهيرية.
البرنامج الوطني المرحلي لا يَدّعي تقديم حل كامل للمسألة الوطنية الفلسطينية، فهذا الحل لا يكون إلا عندما يمارس الشعب الفلسطيني بأسره حقه في تقرير المصير بحرية على كامل ترابه الوطني؛ إنه يرمي – ومن هنا قيمته التي لا تُضاهى – إلى توفير ما يتطلبه مرحلياً إنجاز حق تقرير المصير على محاوره الثلاثة الآنف ذكرها. وبهذا المعنى، فإن البرنامج المرحلي هو – بلا أدنى شك – برنامج للتسوية السياسية المتوازنة؛ وكونه مرحلياً لا يقلل البَتَّة من قيمة ما يحققه، فضلاً عما يؤسس له. وهو إستراتيجي بكل المقاييس، لأنه يقيم البنية التحتية المفضية إلى إنجاز الحقوق الوطنية. المقاربة المرحلية – باختصار – هي التي من خلالها تتشكل شروط تجسيد حق تقرير المصير، مكتملاً، بصيغ متراكمة.
وفي هذا الإطار نشير إلى آراء خاطئة يجري تداولها في بعض الأوساط، مفادها أن البرنامج المرحلي يقتصر في تناوله للمسألة الوطنية على ما ترتب عن حرب الـ 67 من نتائج، أي إحتلال الضفة بما فيه القدس والقطاع، ولا يذهب إلى الأصل المتمثل بنكبة الـ 48 بتداعياتها المتمثلة بإقامة دولة إسرائيل كياناً غاصباً على أنقاض فلسطين التاريخية، أرضاً وشعباً وكياناً؛ علماً أن البرنامج المرحلي – في حقيقة الأمر وواقع الحال – يتطرق إلى جميع جوانب المسألة الوطنية على كامل أرض الوطن في الوضع الراهن، بما يشمل الكل الفلسطيني من خلال ثلاثية الدولة + العودة + المساواة، مؤسساً للحل الديمقراطي الجذري للمسألة الوطنية وبرباط وثيق بين مرحلتين، ترسي الأولى أسس التقدم بثبات نحو الحل التاريخي، كما سبقت الإشارة.
المشروع الوطني الفلسطيني هو – بالتعريف – مشروع للكل الفلسطيني من أجل إدراك حقوقه الوطنية. هذا بالضبط ما يستجيب له ويعبر عنه البرنامج المرحلي بما هو منظومة متكاملة، نقطة إرتكازها هي الإنتفاضة الشعبية بروافعها الكفاحية المتعددة؛ وبشبكة مؤسساتها وتحالفاتها، منظومة توجه نضال الشعب الفلسطيني وتؤطره في كافة مناطق تواجده، من أجل الدولة والعودة والمساواة القومية، على طريق التقدم نحو إنجاز الحل التاريخي بانعقاد شرطه، الذي سيُمكِّن شعبنا من ممارسة حقه في تقرير المصير على كامل أرض فلسطين.
إن الإخلال بوحدة مكونات هذه المنظومة المتراصة، إن بإجتزائها، أو إدارة الظهر لبعضها، أو باعتبار المرحلي هو التاريخي، إنما يمس بجوهر المقاربة المرحلية المفضية إلى التاريخية، ينسف منطقها الداخلي، وفي نهاية المطاف يقوّض مرتكزاتها
(3)
«حل الدولتين» (!)
مصطلح «حل الدولتين» ليس مصطلحاً فلسطينياً، فهو يعود بالأصل إلى «الرباعية الدولية» التي اعتمدته في خطة «خارطة الطريق»- 20/12/2002 على خلفية خطاب الرئيس بوش الابن – 24/6/2002 الذي رحَّبت به الرباعية الدولية في بيانين وزاريين – 16/7 و 17/9/2002([1]).
هذه الخطة التي تم تأجيل الإعلان الرسمي عنها حتى 30/4/2003، أي إلى ما بعد الإنتهاء من الغزو الأميركي – البريطاني للعراق، لم تجد طريقها إلى الحياة، فجرى ضمَّها إلى أرشيف ما سبقها وما تبعها حتى يومنا من مشاريع ومبادرات، عجزت كلها عن تقديم حل للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. ومع ذلك بقي مصطلح «حل الدولتين» قيد التداول لغموضه أو إلتباسه، وبالأساس لسهولة تحميله مضامين هابطة لحقوقنا الوطنية، أو – في أحسن الحالات – للتملص من تحديد موقف واضح بإزاء هذه الحقوق. والأمثلة على ذلك تترى فيما إندرج، وما زال يندرج تحت عنوان «حل الدولتين»، ومنها «صفقة القرن» التصفوية للقضية الفلسطينية – 28/1/2020 الصادرة عن إدارة ترامب، وضمن فضائها – أيضاً – موقف إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، التي تدعو إلى «حل الدولتين» دون الإفصاح عن مضمونه، مؤكدة – في الوقت عينه – عدم توفر شرط التقدم نحو إنجاز هذا الحل، ما يعني أن المطروح – حتى إشعار آخر – هو إدامة تساكن الحكم الإداري الذاتي الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي واستيطانه.
«حل الدولتين» مصطلح يتجاهل واقع وجود دولة تحتل وتستوطن أراضي الدولة الأخرى التي لم تَقُمْ بعد؛ هذا إلى جانب قفزه عن تحديد حدود هذه الدولة، عاصمتها، مصير اللاجئين الذين هُجروا من أرضهم، ورفضه المساواة القومية، المساواة في المواطنة - عموماً - للذين بقوا صامدين فيها، الخ ... ومن هذه الزاوية، لا يمكن أن يعبّر هذا المصطلح بأمانة عن البرنامج المرحلي، فهو لا يتعدى كونه أكثر من صيغة تنازلية عن أهدافه، وهو قطعاً ليس حلاً وسطاً بينه وبين ما تطرحه الحالة الدولية ممثلة بالرباعية الدولية، التي تحتكم – بالنتيجة – إلى معادلة نسبة القوى، وليس إلى ميزان قرارات الشرعية الدولية، فيضحى «حل الدولتين» عُرضة للمناقصة، تعصف به الرياح من كل حدب وصوب.
من هنا، ضرورة التمسك بالنص الحرفي للبرنامج المرحلي، والإصرار على جميع منطوياته، إلى أن تتشكل نسبة القوى المؤاتية لتطبيقه
(4)
البرنامج المرحلي ...
الصعوبات تزكيه، وليس العكس
إذا نحيّنا جانباً – لعدم صحتها – مقولة «نسبة القوى اللازمة لتحرير الضفة والقطاع لا تختلف، أو تكاد، عن تلك التي يستوجبها تحرير فلسطين»، وهي مقولة كانت موضع تداول لدى البعض، في مطلع سبعينيات القرن الماضي، قبل أن تُطوى صفحتها؛ نقول، إذا نحيّنا جانباً هذه المقولة الغريبة، ثمة رأي آخر، له أسانيده، ولا يُستهان برواجه في صفوف الحركة الفلسطينية يعتبر أن المشروع الوطني القائم على أعمدة البرنامج المرحلي، لم يعد ممكن التحقيق لتضافر العوامل التالية:
1- حقائق الميدان، التي – تحت وطأة إستيطان مناطق واسعة في الضفة الغربية والتمدد في جغرافيتها الحاكمة – سوف تضعنا – في أفضل السيناريوهات المحتملة – أمام كيان سياسي مقطع الأوصال، وغير قابل للحياة كدولة مستقلة، حتى ولو منقوصة السيادة، والحدود، والعاصمة.
2- الحالة السياسية في إسرائيل التي بات فيها اليمين الصهيوني المتطرف يهيمن على البيئة المجتمعية، ويتحكم بتوجهات السلطة السياسية المتمحورة حول الضم، وتضييق الخناق على السكان ومحاصرتهم (طالما تعذر تهجيرهم) في سياق مخطط إعادة التأسيس الثاني للكيان الصهيوني بمحددات «إسرائيل الكبرى».
3- إستقواء إسرائيل بالحالة العربية الرسمية الهابطة، النازعة إلى التطبيع مع إسرائيل، إما بوجهة التحالف الإستراتيجي متعدد الأبعاد، أو بشكل علاقات التعاون والتنسيق الوثيق بأشكاله المعلنة أو المستترة، ما يشجع إسرائيل على المضي برهانها على إكتمال التطبيع بالضم، على طريق الإطباق على الحالة الفلسطينية.
إن هذا الرأي، على صحته في تشخيص الصعوبات المتزايدة، التي يصطدم بها البرنامج المرحلي، يُغفل حقيقة أن الصعوبات المذكورة تسري على المشروع الوطني بأسره، وبجميع تنويعاته البرنامجية؛ فهل برنامج «التحرير الكامل»، أو برنامج «الدولة الواحدة بحقوق متساوية»، يصطدم بصعوبات أقل؟
إن المسألة التي نواجه – في جوهرها – لا تكمن بإدراك حجم الصعوبات التي تعترض سبيل المشروع الوطني، أياً كان البرنامج المعتمد، بل بقدرة البرنامج على توحيد الشعب على أهدافه، وإنجاز التعبئة القصوى لطاقاته، كما وقدرته على تحشيد الدعم والإسناد من الخارج الصديق، وتحييد الخارج المعادي، ولو بحدود تقليص أذاه؛ فمن يضمن هذا الشرط، بوسعه أن يواجه بشكل أفضل هذه الصعوبات.
ومن الواضح أن البرنامج المرحلي، باستهدافاته، هو الذي يستجيب لهذه المتطلبات، إذا ما إنطلقنا من تشخيص ملموس لمشكلات وإحتياجات وتطلعات شعبنا في مختلف أماكن تواجده، في إطار القضية الوطنية الواحدة التي تجمعه.
كما أنه من الثابت والمُثْبَت، أن المعركة الفعلية، الحقيقية، المتوالية فصولاً بيننا وبين الكيان الغاصب، هي معركة حول أهداف البرنامج المرحلي وعليها، والتي ستكون حاسمة بانعكاساتها على المسألة الوطنية، مصيراً ومآلاً
(5)
البرنامج الوطني المرحلي ... برنامج وحدة الساحات
وتكامل أشكال النضال
تثبت وقائع الحياة، أن المساحة التي تحركت عليها جميع الإنتفاضات التي شهدتها الحركة الفلسطينية قبل حرب 1982، وما بعدها، دارت رحاها ضمن محددات البرنامج المرحلي، وتعاقبت فصولها تحت راية أهدافه. هذا ما تؤكده إنتفاضات ما قبل العام 1982([2]): الأولى... 1974– 1976، والثانية... 1977–1978، والثالثة... 1979–1980؛ كما تؤكده الإنتفاضات اللاحقة، بعد العام 1982: الأولى... 1987–1993، والثانية... 2000–2004.
وحتى لا يُقال أننا نكتفي بالغرف من جعبة التاريخ، نُذكِّر بـ «معركة القدس»([3]).. 13/4 – 21/5/2021 حديثة العهد، التي جسَّدَت في الميدان ما يدعو إليه البرنامج المرحلي: وحدة نضال مختلف تجمعات شعبنا على أرض فلسطين (الضفة + الـ 48 + غزة)، وفي الشتاتين القريب (بلدان الطوق) والبعيد (المغتربات في أوروبا والأمريكيتين، الخ..).
لقد تجلت مشاركة كل تجمعات الشعب الفلسطيني في صناعة وقائع «معركة القدس» بصيغ العمل المتاحة، وبأشكال النضال المتوافقة مع ظرف كل تجمع على حدة: المقاومة الشعبية بما فيه القدس، وما تخللها من عمليات فدائية (منها مثلاً عملية حاجز زعترة -2/5) + الحرب الأوسع – بتشكيلاتها وأدواتها – إنطلاقاً من قطاع غزة التي طاولت قلب العدو في مدنه + التظاهرات في مخيمات الشتات، وعلى حدود فلسطين، وأخرى في ساحات عدة توزعت على أربع جهات الأرض، شجبت الإرتكابات الإسرائيلية ورفعت رايات الحقوق الوطنية + هبَّة الغضب الشعبي في مناطق الـ 48، التي غطَّت المدن المختلطة، وغيرها، إلى جانب الدعم المباشر لصمود أبناء القدس بالمشاركة متعددة الأوجه، في الدفاع عن الهوية الفلسطينية للمدينة، ومقدساتها، بمواجهة مخططات التهويد والتطهير العرقي.
إن وحدة الساحات وتلاحمها، وتعدد أشكال النضال وتكاملها، كما ظهرت للعيان في «معركة القدس» تجسيداً لموضوعات البرنامج الوطني المرحلي، هي بمثابة إختبار عام، بروڤة لما سوف تأتي به محصلة تراكمات وقائع النضال اليومي، مؤذنة بالعد التنازلي لدحر الإحتلال بجيشه ومستوطنيه، تحقيقاً لأهداف البرنامج الوطني، برنامج الدولة، والعودة، وحق تقرير المصير
(6)
تعزيزاً لراهنية البرنامج المرحلي
على الرغم من التجاوزات التي تعرَّض لها البرنامج الوطني المرحلي من جهة، وإنكشافه، من جهة أخرى، على حملة «إنكار» منظمة لدوره التاريخي بحماية الحركة الفلسطينية وما حققته من إنجازات، فقد حافظ البرنامج المرحلي على راهنيته في التعبير عن المشروع الوطني الفلسطيني سياسياً، وفي توجيه حركة النضال ميدانياً. ومع ذلك، ثمة حاجة للعمل من أجل رد الإعتبار إلى البرنامج المرحلي، بعد كل ما لحق به من «جحود» و«إساءات».
وفي هذا الإطار يندرج، أولاً، دحض محاولة تجويف البرنامج المرحلي وتهبيط سقفه من خلال ما يُسمى بـ «حل الدولتين»، أو من خلال محاولة تقديم ما رست عليه عملية أوسلو من نتائج، ومنها إعتبار سلطة الحكم الإداري الذاتي محطة «الدولة في صيرورتها»، وما شاكل ذلك من تهويمات. إن هذا يستدعي تنظيم الحوار وتكثيفه في الوسط الفلسطيني بشكل خاص، والعربي إن إقتضى الأمر، بالإستناد إلى الوقائع الملموسة التي تُثبت – مهما تعددت زوايا مقاربتها – أن البرنامج المرحلي، مهما إفترقت الآراء على حقائقه، مازال هو ناظم الحركة الأساس في السياسة، كما في الميدان.
كما يندرج في هذا الإطار، أيضاً، التدقيق بغرض التطوير لاتجاهات العمل التي من خلال المثابرة عليها، سيُستعاد زخم البرنامج المرحلي للإنطلاق بدينامية متجددة، من بوابته الأوسع المتمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، التي تمثل الكل الفلسطيني، وتحمل على أكتافها المشروع الوطني الفلسطيني كما يُعرَّفه البرنامج المرحلي، وتعمل على تعبئة طاقات شعبنا، وقيادة نضالاته، وتعزيز وحدته في كافة مناطق تواجده. ومن هذه الزاوية، فالمنظمة والبرنامج المرحلي صنوّان، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. ولذلك لا معنى سياسي عملي للإعتراف بالمنظمة ومكانتها القانونية، بمعزل عن الإعتراف ببرنامجها، الذي على أساس منه نالت الإعتراف بوحدانية التمثيل لشعبها، وبالتالي الإعتراف بحق تقرير المصير لهذا الشعب([4]).
إن هذه الوحدة، التي سوف يُعاد تأسيسها على قاعدة برنامجية، لم يتقدم لشغلها حتى الآن سوى البرنامج المرحلي. فالطرح البرنامجي الآخر، البديل، مازال يحبو، وهو أقرب ما يكون إلى الطرح الشعاراتي الذي يفتقد إلى تحديد واضح للمكونات الأساس التي يقوم عليها أي برنامج جدي: تحديد واضح للهدف أو الأهداف التي تغطي مساحة المسألة الوطنية + نسبة القوى التي تستند إليها وكيفية تشكلها + أشكال العمل والنضال التي تعتمدها وحواملها + التحالفات التي ستقيمها + ...
فضلاً عن إفتقاد الطرح البرنامجي البديل إلى مخزون المكاسب السياسية، القانونية، التحالفية، الإعلامية، ... بما فيه المواقع التمثيلية في المؤسسات والمنظمات،.. أي باختصار المكانة الإقليمية والدولية لمنظمة التحرير، التي تحققت على إمتداد العقود الماضية بفعل التضحيات الغالية للشعب الفلسطيني ونضاله في كل مكان مستظلاً، بالبرنامج المرحلي، وهي المكاسب التي ستنكشف على الأقل في عدد من جوانبها المفصلية أمام معسكر الأعداء في حال غروب شمس البرنامج المرحلي لصالح بدائل برنامجية أخرى، لم يُفصح بعد عن مسألة ميزان القوى الذي تستند إليه
في كل ما سبق، يكمن الأساس في المقاومة، فدينامية البرنامج المرحلي مستمدة من مقاومة الشعب بكل الأشكال والأساليب المتاحة؛ وبدون هذه المقاومة، أو بضعفها وتراجع وتيرتها، يذوي البرنامج المرحلي، أسوة بغيره من البرامج. هذا هو التحدي الحقيقي الذي تقف أمامه الحركة الوطنية الفلسطينية، الذي لا يثمر نتائج إلا عندما نكون بمستواه، والأفضل والأجدى هو أن نصل إليه موحدين
[1])) راجع بهذا الخصوص (ص 143) من كتاب «خارطة الطريق ... إلى أين؟»، الكتاب الرقم 11 في سلسلة «الطريق إلى الإستقلال»، بقلم المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، الطبعة الأولى: نيسان (إبريل) 2004.
[2])) راجع بهذا الخصوص (ص 238 – 243) من الكتاب الرقم 13 في سلسلة «من الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر» بعنوان «عقد النهوض والإنتصارات ... 1972 – 1981»، بقلم المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، الطبعة الأولى: أيار (مايو) – 1981، الطبعة الثانية: شباط (فبراير) 2019.
[3])) راجع الفصل بعنوان «معركة القدس» (ص 7-47) من الكتاب الرقم 42 في سلسلة «الطريق إلى الإستقلال» بعنوان «بين مشهدين»، بقلم اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، الطبعة الأولى: أيار (مايو) 2022.
([4]) راجع الفصل بعنوان «في راهنية الفكر السياسي للجبهة الديمقراطية»، كما والفصل بعنوان «حركة حماس والكيانية الفلسطينية المستقلة»، (ص 29-43) + (ص 45-59) من الكتاب الرقم 35 من سلسلة «الطريق إلى الإستقلال»، بقلم «اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين»، الطبعة الأولى: أيلول (سبتمبر) 2019.
أواخر أيلول (سبتمبر) 2022