في سياق الرأي والرأي الآخر، لا تخلو مجالس الإخوان هذه الأيام من نقاشات حادة حول ما يُشاع عن رغبة بعض قيادات حركة حماس في الخارج العودة إلى سوريا، وذلك في سياق حسابات يبدو أن المصالح -للأسف- دافعها الأول. إنَّ العملية في جانبها المتعلق بالمبادئ والأخلاق تبدو مُحرِّجة، وستجر على الحركة الكثير من الانتقاد من ناحية، وفقدان ثقة الشارع الإسلامي من جهة ثانية، إذ أنَّ هناك من يرى في هذه الخطوة أنها متسرعة، ولا طائل من ورائها حالياً، وهي إن تمَّت ليست أكثر من مغامرةً متهورة لبعض الإخوة في القيادة ممن استهوتهم مظاهر الزعامة!! ولم يعد أحدهم يكترث برأي الأغلبية من إخوانهم في الداخل والخارج، ولا حتى بأصوات الكثير من علماء الأمة ممن تحدثوا وأرسلوا تحذيراتهم من العواقب الوخيمة لمثل تلك الخطوة وتأثيرها على مكانة و"مصداقية" حماس؛ كحركة تحرر وطني براية إسلامية.
من المؤسف، إنَّ بعض قيادات الحركة في الخارج ما تزال تجادل وتُصّر على رأيها، ولم تُلقِ بالاً ً بما يقول كلُّ هؤلاء العلماء والدعاة والشخصيات الإسلامية الوازنة، والتي أخذت آراؤهم وتصريحاتهم طريقها إلى الفضائيات الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي، بما يُشكِّل مخاوف كبيرة لاحتمالية تراجع الحاضنة الإسلامية العالمية في تأييدها ودعمها لحركة حماس، وتعريض صورة مقاومتها الباسلة للاحتلال للطعن والتشويه.
إن الموقف من النظام السوري لم تتغير الآراء حوله كثيراً؛ لأنَّ النظام في جوهره "لم يُغيّر ولم يُبدِّل"، وأن الشعب السوري الذي احتضن حركة حماس وقدَّم لها من الدعم المالي والمعنوي أكثر مما قدَّمت دول الخليج مجتمعة، يستحق منَّا أن نراعي- على الأقل- مشاعره، وألَّا نغفل عما أصابه من مآسي وأحزان، وهو ما زال يعاني حتى اليوم من ظلم النظام الحاكم في بلده، وينتظر من إخوانه في حركة حماس مراعاة مظلوميتهم، وألَّا يكونوا سهماً في الخاصرة، بالوقوف إلى جانب من ظلمهم وتسبب فيما جرى لهم من فاجعة وكارثة إنسانية، دفعت الملايين منهم للهجرة والتشرد خارج البلاد.
لا شك أن مثل هذه الخطوة وتصريحات أخرى سبقتها من بعض القادة في الحركة، قد فتحت الباب للكثير من السوريين، وكذلك المتعاطفين مع مظلوميتهم في العالمين العربي والإسلامي والذين لانشك في طهارة نواياهم أن يتطاول البعض منهم في اتهام حماس بأنها غدت أداةً لحلفاء النظام السوري، وممن يتهمهم هؤلاء السوريين المشردين أنهم شركاء في الجريمة التي حطَّت في ديارهم، وأن حماس -هذه الحركة الإسلامية العظيمة- قد فقدت الرؤية وصوابية الموقف باصطفافها إلى هذا الحلف، وبشكل ربما يُبعدها عن أدبيات القيم والمبادئ التي تُجلّي شعاراتها، وتزِّين تاريخها النضالي العطر، والارتهان إلى حسابات من المصالح الضيقة لدى البعض، وما يعنيه ذلك من "مقتلة" أو طعنة لكلِّ ما اعتقده جمهور الأمة من الحق والطهارة والمشروعية في دعمه لحماس وحركتها الشعبية في مقاتلة الظالمين من الصهاينة المعتدين.
السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا كلّ هذه الهرولة في التصريحات التي نسمعها من بعض إخواننا في الحركة، والذين يدفعون بحجج واهية للتقارب من نظام ظالم لم يتصالح بعد مع شعبه، وما زال معزولاً إقليمياً ودولياً.
وما الذي يخشاه بعض قيادات حماس في الخارج، لتبدو وكأنها تتسول العودة إلى سوريا، لإرضاء بعض حلفاء النظام في المنطقة.
والسؤال الآخر الذي يفرض نفسه كذلك: تُرى ما هي ردة فعل الإسلاميين -وهم بالملايين حول العالم- تجاه هذه الخطوة المتعجلة في ركون بعض قيادات الحركة إلى الذين ظلموا؟ وهل يكفي القول إنها إكراهات المصلحة و"حكم الضرورة" التي فرضت عليهم ذلك، أو أنها الحاجة إلى المال والنصير، وأنها ليست أكثر من مجرد خطوة لتأمين "مثابة آمنة" إذا ما غدرت بهم الأيام، وأُخرجوا من حصون الغربة إلى منافي جديدة.
في السابق، كان يتهمنا خصومنا من العلمانيين أننا "طهابيب" سياسة، وكان ردنا أننا أصحاب مبادئ، والسياسة عندنا هي مصالح تحكمها المبادئ والقيم. للأسف، اليوم نبدو كتلك التي نكثت غزلها أنكاثاً؛ حيث إن علاقاتنا بالكلِّ الإسلامي أخذة في التصدع، وأن "المصداقية" التي كانت رأس مالنا في كلِّ الساحات الإسلامية هي اليوم محل تساؤل وتشكيك.
نحن لا نعترض -مبدئياً- على فكرة العودة إلى سوريا، فهي دولة شقيقة وحاضنة للآلاف من أبناء شعبنا، وحركة حماس لم تنكر فضائل أهلها، ولكن الاحتجاج هو على مسألة التوقيت، إذ لم يتغير شيء في تعاملات النظام السوري القاسية مع شعبه، وهناك ملايين النازحين واللاجئين منهم تجأر إلى الله ممن ظلمهم أو تواطأ مع من ظلمهم.
إن من يتابع إعلام النظام السوري لن يجد ترحيباً بالخطوة، التي تتحرك بها بعض قيادات حماس، وإن مناخ الخطاب الرسمي إعلامياً يأتي على شاكلة: "إن جاءوا.. فليأتوا صاغرين"!!
باختصار.. يمكننا القول بأنَّ هذه الخطوة في اتجاه العودة إلى سوريا الآن غير موفقة من وجهة نظري، وليست حاجة ملحة ينطبق عليها حكم الضرورة، وبالإمكان الانتظار إلى انفراج العلاقة مع النظام في المشهدين العربي والإسلامي، وحدوث بعض مظاهر التصالح والحلِّ مع إخواننا السوريين في المنافي والشتات، تسمح لنا بالقول: "ما خذلناكم"، والآن بعودتكم إلى دياركم حصحص الحق لنا بالتحرك لعودة العلاقة مع سوريا، والتي كانت ركيزة قوية لنضالنا الفلسطيني.
أقول لمن يتعجلون العودة إلى سوريا بأي ثمن، وفقط لتسجيل موقف يرضي بعض حلفائهم وإخواننا في بيروت وطهران، إن هذه الخطوة لو تمَّت فإنها ستكون أول شرخ كبير في علاقة حركة حماس مع قاعدتها الإسلامية وارتباطاتها التنظيمية في الداخل والخارج.
نعم، هناك من يهمس في مجالس الإخوان الخاصة بضرورة التحرك وإعلان البراءة من مثل هذا الموقف، والتشهير بكلِّ من يقف خلفه أو يدعو له من عليِّة قادة حماس في الخارج أو حتى بالداخل، وهذا إن تمَّ فقل على حماس الشعب والقضية وصفحاتها الوضيئة وحركتها ومقاومتها السلام.
كلمة أخيرة؛ لإخواننا وأحبابنا من قيادات حركة حماس.. من ضاقت به منافي الغربة ويخشى أن تقلب له بعض الأقطار ظهر المجن، فإنَّ أكناف بيت المقدس أبوابها مشرعةً شوقاً إليه، وغزة المحررة تناديه للرباط والشهادة على أرضها الطهور، إذ إنَّ قدرَ الثائر -أيها الإخوان- ليس الغربة بل الوطن.