أين تقع النقطة التي يتعيّن عند بلوغها وقف الحرب في أوكرانيا وعليها، وانتقال الأطراف من ميادين القتال إلى غرف التفاوض؟ سؤال، ربما كان الأصعب، من بين عشرات الأسئلة التي أثارها الاجتياح الروسي لأوكرانيا، والحرب الكونية التي تخوضها الولايات المتحدة والغرب، ضد موسكو. هل تتمثل في طرد القوات الروسية من الدونباس وإعادتها إلى خطوط ما قبل الرابع والعشرين من شباط 2022، أم يتعين كذلك، إخراجها من جزيرة القرم، والعودة بها إلى خطوط ما قبل العام 2014؟
هل يتعين ملاحقة روسيا إلى ما وراء أوكرانيا، في عمقها الإستراتيجي، اقتصادياً ودبلوماسياً على الأقل، وإلحاق إعاقة مزمنة بقدرتها على تهديد أيّ من جاراتها، كما تعهد بذلك الرئيس الأميركي، وغير زعيم غربي؟ وكيف يمكن للغرب التأكد من أن روسيا فقدت القدرة على شنّ المزيد من الحروب والمغامرات، وأن "نزعتها التوسعية" قد انطفأت، ومتى يمكن للغرب أن يعرف ذلك؟ هل ثمة لحظة محددة في سياق هذه المواجهة المحتدمة الدائرة حالياً، يمكن عندها القول: إن الهدف المعلن للغرب: منع روسيا من تكرار "التجربة الأوكرانية"، قد تحقق. والأهم، هل يمكن تحقيق هذا الهدف من دون الدفع بـ"القيصر" إلى "خيار شمشون"، و"هدم المعبد" فوق رؤوس الجميع؟
إن كان الهدف الرئيس للحملة الأميركية - الغربية - الأطلسية على روسيا، هو تجريدها من القدرة على تهديد جاراتها والغرب عموماً، فأعتقد أن وقائع الأشهر السبعة الماضية، أظهرت للرئيس بوتين، وبما لا يدع مجالاً للشك، أن زمن "القفزات السريعة والخاطفة"، خارج الحدود قد ولّى؛ فالجيوش الروسية تكابد أصعب الظروف وتتكبد أشد الخسائر، ومنذ أن تعذّر عليها حسم الموقف الميداني في الأسبوعين أو الثلاثة أسابيع الأولى لـ"العملية العسكرية الخاصة"، بدا أنها دخلت مساراً انسحابياً، غير منظم، وأن ثاني أقوى جيش في العالم، قد أصابه الكثير من الوهن، على غير ما كنّا نظن ونتوقع.
ليس هذا فحسب، فرهانات الحرب من الجانب الروسي، بُنيت على هشاشة "الهوية القومية" لأوكرانيا، ومتانة الرابطة القومية الروسية في المقابل، قبل أن يتأكد للكرملين عكس هذه الفرضية تماماً، فالأوكرانيون يقاتلون بروح "الحرب الوطنية الكبرى"، وبدوافع قومية فوّاره، بخلاف الروس، الذين يعتقد قسم منهم أن هذه الحرب ليست حربهم، بدلالة ردود أفعالهم على قرار التعبئة الجزئية التي اتخذه بوتين مؤخراً.
والرهان على انشطار "الناتو" وانقسام المعسكر الغربي، سقط منذ الأيام الأولى للحرب، وحتى بعد اشتداد الحاجة للطاقة الروسية من نفط وغاز، وبدا أن الغرب أكثر تماسكاً مما كان عليه زمن الحرب الباردة، كما تبدى للعيان أن الأصوات "الناشزة" في الغرب، التي تتحدث بخطاب مغاير، إنما تصدر عن دول وأطراف هامشية، وهي غالباً، دول تعتمد كلياً على الغاز والنفط الروسيَّين (هنغاريا) أو أحزاب وقوى من "قماشة" اليمين الشعبوي المتطرف، في أوروبا والولايات المتحدة، سواء بسواء.
والحقيقة أن قرار اجتياح أوكرانيا لم يكن صدمةً لكييف وحدها، أو حتى للغرب والمجتمع الدولي فحسب، بل مثّل بتداعياته الفورية والمبكرة صدمة للكرملين ذاته؛ إذ من كان يتوقع أن تنهمر شحنات السلاح والمال والدعم الدبلوماسي والإعلامي، بغزارة منقطعة النظير من كل عواصم الغرب إلى كييف؟ ومن كان ينتظر من الأوكرانيين، كل هذه الشجاعة والصلابة في ميادين المعارك؟ هاتان صدمتان، وليست صدمة واحدة.
بهذا المعنى، فإن ما حصل حتى الآن، يكفي لردع موسكو عن مقارفة أيّ مغامرة عسكرية في المستقبل القريب أو حتى البعيد، وهذا هو الهدف المعلن للغرب على أقل تقدير. أما إن كانت للغرب نوايا وأجندات أخرى، كما تقول موسكو، فإن الباب سيظل مشرعاً لسيناريو "هدم المعبد"، وليس صدفة أبداً أن تصدر في وقت متزامن تصريحات عدة لقادة عالميين، تحذر من خطر اندلاع حرب نووية، والقول: إن المسافة التي تفصل البشرية عنها، باتت تعد بالخطوات والأمتار الأخيرة. وليست مستغربة كذلك، كل هذه التحركات العسكرية الإستراتيجية للمعسكرَين المتقابلَين، وتلك الإشارات المتكررة لـ "العقيدة النووية الروسية".
لكن بفرض أن بوتين وصحبه أدركوا أن كُلَف "المغامرات العسكرية" لن تكون محتملة بعد اليوم، وأنهم تَمثّلوا دروس الحرب الأوكرانية جيداً، فماذا عن مستقبل الأراضي الأوكرانية التي بسطت روسيا سيطرتها عليها، وأخذت تُجري لسكانها "الاستفتاءات" على الانضمام لروسيا؟ وهل يمكن التسامح مع فكرة السماح لبوتين بضم هذه الأراضي إلى امبراطوريته، حتى لا يصبح "شمشون العصر الحديث"، أم أنه لا بد من استعادة هذه الأراضي إلى السيادة الأوكرانية أولاً، قبل الجلوس على موائد التفاوض وفتح طريق آمن للدبلوماسية؟
إن خرج بوتين بالدونباس، وضمها إلى القرم، فستكون لديه ورقة قوية، يمكنه الاتكاء عليها لتبرير صوابية قرار الحرب والاجتياح، لكن نتيجةً كهذه هزيمة صافية لكييف وواشنطن والغرب، وهذا ما لن تسمح به هذه الأطراف. وإن فُرض عليه الانسحاب عنوة إلى حدود الرابع والعشرين من شباط الماضي، ستكون هزيمة مدويّة له، ليس أمام كييف وواشنطن فحسب، بل وفي قلب عاصمة ملكه السعيد كذلك، وستكون لخاتمة من هذا النوع تداعيات لا تطال شخصه وشخصيته المتضخمة فحسب، بل وربما تطال "الاتحاد الروسي" كذلك، وقد نكون أمام سيناريو "انهيار كبير" ثانٍ بغد الانهيار الكبير الأول في العام 1990، وهذا أمرٌ لن يسمح بوتين بحدوثه.
عند نقطة الاستعصاء هذه يتعين على الدبلوماسية أن تجترح المعجزات، وهو أمرٌ لطالما فعلته من قبل، سيما إن توفرت النوايا والإرادات، وأدرك اللاعبون الكبار، أن ثمن المضي في الحرب والمواجهة غير محتمل، ولا يتعين دفعه، وأن التنازل على مائدة التفاوض، على قسوته وكلفته الباهظة، يظل أقل قسوة وكلفة، من المضي في الحرب والتصعيد، سيما حين تكون القوى الكبرى، مصطفة في الخنادق المتقابلة، مُشهرة أسلحتها للإفناء الشامل.
يمكن التفكير باجتراح وضعية خاصة لإقليم الدونباس، تكفل لروسيا دوراً ما في الإقليم، ولأهله الناطقين بالروسية، حقوقهم وحرياتهم وأمانهم في إطار فيدرالي أو كونفدرالي، ويمكن في هذا السياق وضع جدول زمني مرن لانسحاب القوات الروسية منه، ويمكن للأمم المتحدة، أن تكون مظلة هذه الحلول وضمانتها.
ومع أن مقترحاً كهذا شديد التعقيد، ويواجه عقداً وعراقيل كأداء كثيرة، لكن من شأنه أن يوفر للأطراف المتحاربة فرصة الادعاء بتحقيق الفوز، بوتين بتأمينه سلامة الإقليم وأهله من بطش القوميين المتطرفين الأوكرانيين، وزيلينسكي بالادعاء أنه أرغم الروس على إبرام اتفاق، يسقط فكرة الضم والإلحاق، ويحفظ لأوكرانيا سلامة أراضيها وسيادتها، وسيكون بمقدور واشنطن وعواصم الغرب كذلك الزعم بأنها "ردعت" روسيا في أوكرانيا وما وراءها.
معادلة "رابح - رابح"، يمكن أن تكون الطريق الأقصر لوقف الحرب، ومنع الانزلاق لسيناريو "هدم المعبد". يمكن أن تحفظ ماء وجه الأطراف، وأن تهبط بهم بسلام عن قمم الأشجار التي صعدوا إليها في الأشهر الأخيرة، والأهم إنقاذ البشرية.