لكل مرحلة نضالية سماتها المتشكلة من الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة بها.. ولكل مرحلة جيلها وشبابها وعنفوانها ونكهتها الخاصة, ومنذ شهور والحراك الشعبي والحراك المسلح في مواجهة الاحتلال يأخذ أبعاداً تؤشّر على ديناميات وفعاليات ستعبر الزمان والمكان إلى الزمن الأطول والمكان الأوسع, بل هي أحداث متدحرجة كما كرة الثلج, تحمل معها المزيد من الغضب والعنفوان, والمزيد من الالتفاف الجماهيري, الأمر الذي يعني أننا أمام أكثر من هبّة شعبية وأكثر من اشتباك مسلح, وأبعد من مسيرات وعمليان طعن واشتباك, إلى مواقع متقدمة على طريق الانتفاضة الشاملة بما يخلق وضعاً أمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً أمام الاحتلال, يصعب التعايش معه...
إن معركة وحدة الساحات جاءت في هذا السياق المتفجر منذ شهور وسنوات, ولم تكن منفصلة عنه, بل هي بنت الظاهرة الاجتماعية المقاومة على كل المستويات, فالمقاومة كظاهرة اجتماعية هي ظاهرة مركبة تدخل في صناعتها العديد من العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية, وهي عملية صراعية يدخل في صنعها طبيعة الاستعمار أو العدو الخارجي, الأمر الذي نحتاج فيه إلى دراسة او البحث في معركة وحدة الساحات واستكشاف أسبابها ومفاعليلها ومآلاتها, ارتباطاً بفهمنا بسيسيولوجيا المقاومة الفلسطينية, وإذا جاز لنا أن نبحث أو ندقق في فهم معركة وحدة الساحات كواحدة في السياق العام المتصادم مع الاحتلال, لا بد لنا أن نعيدها إلى سيسيولوجيا المقاومة وفهم البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية المحتضنة لكل الحراك الشعبي, والحراك المسلح وأشكال الانتفاضة الجنينية اليومية, باعتبار أن مفهوم المقاومة هي مفهوم بنيوي شامل وليس مفهوم كفاحي او فصائلي أو نخبوي, إننا أمام مجتمع مقاوم ولسنا أمام فصيل مقاوم, وإن كان هذا الفصيل أو ذاك متميزاً في سياق مقاومته في لحظة ما أو معركة ما...
ضمن هذا المفهوم لسيكولوجيا المقاومة والمجتمع الفلسطيني يتبدى في أي سياق يمكن دراسة معركة وحدة الساحات...؟ وفي أي بنية اجتماعية محيطة كانت معركة وحدة الساحات وقبلها معركة سيف القدس, وفي أي بيئة كانت الاشتباكات الفردية وعمليات الطعن والعمليات الاستشهادية, وفي أي بيئة يتحرك الأسرى يومياً في سيمفونية نضالية قلّ نظيرها...؟ لم يكن ممكناً أن تأخذ كل هذه المعارك المتواصلة في كل المدن والقرى والمسجد الأقصى, البعد الوطني دون الاحتضان الشعبي ودون توفر سيسيولوجيا المقاومة كأسباب ومتغيرات يومية, ودون الحماية الاجتماعية المعنوية والوطنية لكل عملية استشهاد أو عملية اشتباك أو معركة من وزن وحدة الساحات...
من هنا فإننا نفهم وندرس معركة وحدة الساحات التي يتعدى فعلها (48 ساعة) في سياق الظاهرة ككل, وليس في سياق تفاصيل الحدث ذاته, وعدد الصواريخ (1117) التي أطلقت على الكيان, بل في سياق الصاروخ الأهم والأخطر لدى الاحتلال وهو حضور الجهاد الإسلامي كقوة فاعلة في للبيئة الاجتماعية المقاومة, مما يجعل الاحتلال يستهدف الصاروخ الأخطر أي تدمير الجهاد الإسلامي, وضرب البيئة الاجتماعية تباعاً...
وعليه فإن التركيز على معركة وحدة الساحات أو قبلها معركة سيف القدس, دون الأخذ بعين الاعتبار معركة الشعب الفلسطيني بمجمله ضد الكيان الصهيوني وعلى امتداد زمن الاحتلال والاستيطان ينطوي على قدر عالٍ من التسطيح السياسي في التحليل والاستخلاص...
• إن من يعمل على إدامة الصراع مع الكيان ليست الفصائل الفلسطينية وحدها, ربما هي الجزء المنظم من المواجهة, لكنها الجزء الملحق في المواجهة, بهذا المعنى فإن حركة الجهاد الإسلامي ودورها, هي تجسيد لسيسيولوجيا المجتمع الفلسطيني المقاوم وليست صانعة لها, وهذا ينطبق على كل الفصائل كبيرها وصغيرها...وبهذا المعنى أيضاً فإن معركة الساحات ليست معركة من أجل المجاهد بسام السعدي, أو المجاهد خليل العواودة, إنما هي من أجل الشعب الفلسطيني كله, ومن أجل كل الحركة الأسيرة وفي مواجهة العدوان الأشمل على الشعب الفلسطيني...فالتركيز على أن المعركة من أجلهما, والاتفاق من أجلهما, ينطوي على الغرق في العصبوية التنظيمية, مما يخلق هامشاً من الرأي العام لا يقبل هذا التوصيف...
• إن حساب الربح والخسارة في معركة وحدة الساحات ليست عملية حسابية ترصد عدد الشهداء او القتلى من أفراد العدو, أو عدد المنشآت التي دمّرت هنا أو هناك, أو عدد الصواريخ التي أطلقت على الكيان...إلخ...إنما هي عملية مركبة تأخذ الجوانب المخفية وليست المباشرة في ساحة المعركة...فما زال العدو قادراً على إلحاق الخسائر في صفوف شعبنا من شهداء وجرحى أكثر مما نلحق به, ومن جانبٍ آخر فما زال العدو قادراً على إحداث التدمير في المنشآت والمباني والبنى التحتية أكثر مما نلحق به من تدمير...!!
ولكن ما هي الخسائر والأرباح التي استطاعت معركة وحدة الساحات أن تلحقها بالكيان الصهيوني...؟ وما قبلها من أعمال فردية, ومعركة سيف القدس...؟
أولاً: فشل الكيان الصهيوني في ضرب واستئصال الجهاد الإسلامي, كما كان يعتقد بأن عملية (الفجر الصادق) ستكون البرزح ما بين الفجر الصادق (الاستئصال) والفجر الكاذب (حضور الجهاد)... وهذه التسمية كناية عن هدف المعركة في صناعة فجر جديد باقتلاع الجهاد الإسلامي, عبر ضرب قياداته وبناه الميدانية, فالأحداث دللت على أن الجهاد الإسلامي حافظت على جاهزيتها واستعدادها وعتادها وكوادرها في إدامة المعركة رغم الخسائر المادية الكبيرة واستشهاد عدد من قياداته...
ثانياً:من الأهمية بمكان الإدراك أن معركتنا مع الاحتلال الاستيطاني هي معركة إرادات...ولما هي كذلك فإن انكسار الإرادة / الوعي لدى الكيان الصهيوني عند كل معركة بما فيها وحدة الساحات, هي في سياق الخسارة التراكمية للكيان وبيئته الاجتماعية...ففي كل معركة كان العدو يخسر من فتاوى إيديولوجيته الصلبه حول بقاء الإحتلال الأزلي, فاهتزاز الأيديولوجيا والحتمية التاريخية في بقاء الكيان مستمر عبر تصريحات قياداته ومفكريه عن سؤال الوجود اليهودي في فلسطين...
ثالثاً: وعليه فإن أهم تجليات الخسارة الاسرائيلية هي اهتزاز اليقينيات الصهيونية على مستوى النخب الصهيونية واليهودية وعلى مستوى الشارع الاسرائيلي, حيث سؤال الوجود يكبر مع كل معركة, وأن الكيان لم يزل لم يأخذ شرعيته التاريخية, رغم مرور ثمانية عقود على تأسيسه ورغم اكتسابه الشرعية السياسية الغربية والأمم المتحدة, وهنا أهمية ديمومة المقاومة معه لكسر الوعي الاسرائيلي, وكل الحروب والمعارك التي شنها العدو على الشعب الفلسطيني لم تكسر وعيه في تمسكه بهويته الوطنية وبقائه على أرضه, وتجذره يوماً بعد يوم على كامل أرضه, في حين أن الوعي الاسرائيلي يتكسر مع كل معركة, لأن وعيه يستند على حوامل سياسية دعائية وتوراتيه وليست تاريخية..
رابعاً: إن أحد استهدافات الكيان من هذه المعركة, كان الاستفراد بحركة الجهاد الإسلامي التي تنمو في البيئة المقاومة, ومحاولة وأدها وجزّ العشب مبكراً, اعتقاداً منه أن الحركة لن تجرؤ على الرد وحدها وعلى تجاوز الموقف الحمساوي الغير راغب بفتح معركة مع الكيان في الظروف الراهنة, واعتقاداً منه أيضاً بأن حركة الجهاد الإسلامي ليس بمقدورها فتح معركة لوحدها, الأمر الذي شكّل مفاجأة على أكثر من مستوى, مستوى جاهزيتها للرد, ومستوى استقلاليتها في أخذ القرار, ومستوى صمودها رغم الخسائر القيادية والميدانية, مما جعل الكيان يواجه هذا الموقف المستجد بدرجة من الإرباك وعدم اليقين والإسراع في وقف العدوان, ويمكن القول أيضاً أن أطماع (لابيد) في استثمار هذا الموقف لتعزيز مكانته في الانتخابات القادمة قد فشلت تماماً...
خامساً: استتباعاً فإن الرد للجهاد الإسلامي قد عزز مكانتها لدى الشعب الفلسطيني, وباتت تحوز على قدر أكبر من الالتفاف الشعبي والتعاطف الجماهيري, برغم بعض الانتقادات هنا أو هناك التي لا ترى صحة في أخذ القرار المنفرد أو سياق إدارة المعركة أو قبول وقف النار بالوساطة المصرية دون تحقيق أهداف سياسية والاكتفاء بإطلاق سراح الأسيرين...
سادساً: إن شعار وحدة الساحات الذي أطلق على المعركة التي استمرت يومين, على أهميته ونبل مقصده, وهو شعار مضمر الغاية والهدف, بيد أن الفرق كان واضحاً بين الغاية والهدف وبين الواقع, وهو هدف صحيح ويحمل قدراً من الوطنية الصادقة والرؤية الصحيحة, لكنه في الواقع لم يترجم لا بين الفصائل ولا بين المواقع, لكنه استجاب عملياً لنداء ووجدان الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع والشتات...
سابعاً: إن معركة وحدة الساحات هي معركة ( بين المقاومات الشاملة والمستمرة) واستثمارها لا يجب أن يكون استثماراً فصائلياً, إنما يجب استثمارها وطنياً لجهة تعزيز خيار المقاومة ورؤيتها, والابتعاد قدر الإمكان عن المنطق الفصائلي وتسجيل ماركات كفاحية خاصة لكل فصيل...
ثامناً: إن الخلاصة من هذه المعركة, تنطلق من أهمية إدراك أن إدامة المقاومة ضد الكيان بكافة الأشكال, هي الفيصل في اهتزاز فكرة الكيان من أصلها, وهي التي تنزع عنه شرعية الوجود يوماً بعد يوم, وهي الطريق الوحيد لعملية التحرير, وفي هذا السياق تتبدّى أهمية العمل, والإعلان عن "جبهة مقاومة ضد الاحتلال" من كافة القوى والفصائل الفلسطينية لابتداع سيمفونية كفاحية وسياسية وشعبية يتجلى وقعها على وحدة الشعب الفلسطيني من جهة, وعلى خلق وجع دائم في مفاصل الكيان...