قد يبدو هجوم رئيس المعارضة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على الاتفاق، الذي يتبلور بين بلاده ولبنان حول ترسيم الحدود البحرية، على طريقة معارضة إسرائيل للاتفاق بين الولايات المتحدة وإيران، أو على أنه جاء من باب الدعاية الانتخابية، خاصة أن إسرائيل على بعد أقل من شهر من موعد انتخابات الكنيست، الذي يأمل نتنياهو بالذات العودة عبرها لمقعد رئاسة الحكومة، لكن في حقيقة الأمر، فإن الاتفاق إن لم يكن قد تضمن تنازلاً أو حتى هزيمة تفاوضية إسرائيلية، فإنه جاء بمثابة الانتصار للبنان، الذي توحّد من أجل الحصول على أفضل اتفاق ممكن، رغم الوضع الداخلي الصعب جداً، خاصة على الصعيد الاقتصادي، الذي بات منذ وقت بسبب الضغوطات الخارجية، والشقاق الداخلي، على شفا الانهيار التام، مع شح الوقود وندرة العملة الصعبة في البنوك، كذلك في ظل أزمة سياسية منعت مؤخراً من التوصل لانتخاب رئيس جديد للبنان، يخلف ميشال عون.
إعلان الطرفين، إسرائيل عبر رئيس حكومتها، الذي قال: إن موافقتها على الاتفاق متوقفة على الجانب القانوني، أي أنها قد وافقت بالمعنى السياسي، ولبنان الذي قال عبر مصدر معني بتلك المفاوضات: إن لبنان حصل على كل مطالبه، يعني أن الاتفاق عملياً قد حصل، لذا فإن نتنياهو الذي حاول من قبل أن يثني حكومة يائير لابيد عن الموافقة على الاتفاق، ينتقل الآن إلى محاولة وضع العراقيل على مستوى تنفيذ الاتفاق - كما سبق له وفعل مع اتفاقات أوسلو - وهو بعد أن كان هدد باللجوء إلى القضاء، وسرعان ما أدرك أن ذلك مستحيل، لفرض إجراء استفتاء على الاتفاق، عاد بعد الإعلان عن الرد اللبناني على الاتفاق - الذي تم عبر الوسيط الأميركي - إلى التهديد بالقول: إن الاتفاق لن يكون ملزماً، وهو يقصد أنه حين يتولى رئاسة الحكومة، بعد انتخابات ستجري بعد أقل من شهر، لن يلتزم بتنفيذ هذا الاتفاق.
على أي حال يبقى هذا شأناً إسرائيلياً داخلياً، لكن سير التفاوض يظهر أن إسناد «حزب الله» من وراء الكواليس للمفاوض اللبناني بقوته العسكرية؛ كقوة ردع للجبروت والضغط الإسرائيلي، قد أتى أُكله، وأن الحزب قد انتصر مجدداً على إسرائيل، ولكن هذه المرة في ساحة التفاوض، وعبر استخدام القوة العسكرية كقوة ردع، وقد كانت إسرائيل قد راهنت بأن لبنان في ظل أزمته الاقتصادية الخانقة سيهرول تجاه أي اتفاق بسبب حاجته للغاز وبيعه للحصول على العملة الصعبة، وكان قادة العدو، بمن فيهم بيني غانتس، واضحين في التطرق لهذا الجانب، لكن إسرائيل كانت بحاجة إلى استخراج الغاز أكثر من لبنان، وذلك لأنها تسابق الزمن في محاولة لانتهاز فرصة العقوبات الغربية، الأميركية الأوروبية المفروضة على استيراد النفط والغاز الروسيَّين من قبل دول الاتحاد الأوروبي، ما يعني فتح سوق لا تعوّض لإسرائيل التي ينتظرها إنتاج هائل من غاز شرق البحر المتوسط.
وحيث إن المفاوضات بين الطرفين بدأت منذ عامين، إلا أن وتيرتها سرعت منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وفرض العقوبات على تصدير النفط والغاز الروسيَّين، خاصة لأوروبا، وهكذا صار لكل من إسرائيل والولايات المتحدة مصلحة ملحة بإبرام الاتفاق، من أجل البدء باستخراج الغاز خاصة من حقل كاريش، لكن ذلك كان يتطلب ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، لإزالة العقبات أمام عمليات التنقيب عن النفط والغاز معاً.
أما التنازع بين الطرفين فقد شمل منطقة مساحتها 860 كيلومتراً مربعاً، وفي القلب منها حقل كاريش الذي تقدر مساحته بـ 150 كيلومتراً مربعاً، ويبلغ احتياطي الغاز فيه ما بين 1.5 إلى 2 تريليون قدم مكعب، والذي يبعد عن ساحل حيفا 75 كم، فيما يبعد 4 كم فقط عن الحدود بين البلدين، لذا فإن التداخل بين حقول الغاز تحت البحر، جعل من الصعب جداً التوصل لاتفاق يضع الفواصل الواضحة بين ما هو من حق كل طرف.
في البداية حاولت إسرائيل إخراج حقل كاريش من دائرة التفاوض، التي استمرت عامين ما بين تشرين الأول 2020 وتشرين الأول الحالي، وعبر خمس جولات تفاوضية، من خلال عرض يقول: حقل قانا مقابل كاريش.. لكن التداخل أو امتداد الحقل، أي حقل قانا الموجود بالجانب اللبناني، في المناطق التي يعترف لبنان بأنها مناطق إسرائيلية، حال دون ذلك، واستمر التفاوض بعروض إسرائيلية متتابعة، منها تشكيل مناطق أمنية حدودية، رفضها لبنان، وحين هددت إسرائيل بتحديد موعد مطلع أيلول الماضي للبدء في استخراج الغاز من «كاريش» الذي هو باعتراف لبنان حقل إسرائيلي، حان دور «حزب الله» بتهديد كل منصات استخراج الغاز من الحقل بالصواريخ والمسيّرات، الأمر الذي أظهر توتراً بين الجانبين، حين هددت إسرائيل عبر أفيغدور ليبرمان بمسح الضاحية الجنوبية من بيروت، معقل «حزب الله» من الخارطة، لكن تهديد «حزب الله» بالمقابل، ردع إسرائيل في نهاية المطاف وأضعفها تفاوضياً، وهي اضطرت إلى الإعلان على الملأ تأجيل موعد استخراج الغاز من الحقل المذكور، حتى ينتهي التفاوض كما اشترط وطالب «حزب الله».
وقد تضمن الاتفاق حسب الوسيط الأميركي ترسيماً للحدود المائية الجنوبية بين لبنان وإسرائيل يستند إلى الخط «23»، فيما تم الاتفاق على تقاسم العوائد من إنتاج الغاز من المنطقة التي كانت محل نزاع بين الطرفين في البحر المتوسط، ولابيد نفسه أشار إلى الترتيب الذي ظل طول الوقت مادة التفاوض، والذي فتح الباب أخيراً للاتفاق بقوله: الترتيب سيتم من خلاله إنتاج الغاز من جانب شركة بموجب ترخيص لبناني في منطقة قانا المتنازع عليها، مع حصول إسرائيل على حصة من الإيرادات، مضيفاً: «لا مانع لدينا من تطوير حقل غاز لبناني إضافي، سنتلقى منه بالطبع عائدات، وتابع: إن من شأن مثل هذا الحقل أن يقلل الاعتماد اللبناني على إيران ويكبح جماح «حزب الله»، ويحقق الاستقرار في المنطقة.
هذا عملياً اعتراف ضمني بالتنازل الإسرائيلي، الذي يعتبر أن الاتفاق يبعد لبنان عن إيران، حيث ظلت إيران طوال الوقت تعرض تزويد لبنان بكل ما يحتاجه من نفط، وهي بذلك تضرب عصفورين بحجر واحد، أحدهما بالطبع تحرير لبنان من الضغط الغربي، أو من كل أعداء إيران الدوليين والإقليميين، ما يعزز من مكانة حليفها «حزب الله» داخل لبنان، وثانيهما كسرها للحصار المفروض عليها، ومن ضمنه بل أهمه فرض حصار على صادراتها النفطية. وهكذا تعلل إسرائيل تنازلها بتفاصيل الاتفاق إلى تحقيق المكسب السياسي المتمثل بعدم اعتماد لبنان على النفط الإيراني. والاتفاق النهائي سيكون عبر حفل تقيمه واشنطن في الناقورة، لكنه بانتظار الموافقة القانونية الإسرائيلية، كذلك الموافقة القانونية اللبنانية، حيث شكل لبنان لجنة أمنية قانونية لدراسة الاتفاق لإبداء ملاحظاتها قبل تقديم الرد الرسمي عليه.