إن لم يكن قد نفد كل الوقت، فإن ما تبقى منه ليس كثيراً حتى تصبح مصطلحات مثل المصالحة والوحدة الوطنية، وإعادة بناء المؤسسات والاستراتيجيات الوطنية الشاملة، مجرد أيقونات من الماضي، لا تنفع في تبرير واقع حال فلسطيني يزداد بؤساً، ويزداد خطورة على الحقوق الوطنية.
ثماني سنوات بطولها من الانقسام والصراع، ومن الحوار الموسمي الثنائي، كانت كفيلة بأن تطيح بالكثير من الأحلام، وفي مقدمتها الحلم الجميل بدولة مستقلة وعاصمتها القدس على كامل الأراضي المحتلة العام 1967، وعودة اللاجئين، الذين يتعرضون لحملات تستهدف دفعهم إلى اللجوء والهجرة، والتشتت في بقاع الأرض، أو الموت والدمار بلا ثمن ودون أن تكون للفلسطيني أدنى مصلحة.
أزعم أن الناس في قطاع غزة وفي الضفة لم يعودوا يعيرون أي اهتمام إزاء المشروع الوطني، سواء المتفق أو المختلف عليه، ولا يعيرون أي اهتمام لما يصدر عن فصائل العمل الوطني، وانهم أي الناس يظهرون اهتماماً أكبر لطبيعة ومدى جودة حياتهم اليومية واحتياجاتهم الأساسية بعد أن خضعوا لعملية تكييف طويلة، استهدفت جعلهم يقبلون ما كانوا يرفضون، وينسون ما كانوا يحلمون به لعقود طويلة.
ما يقرب من العام إلاّ قليلاً، جرى توقيع اتفاق في بيت الشيخ إسماعيل هنية على شاطئ بحر غزة، حرص الجميع على أن لا يعتبروه اتفاقاً جديداً، وإنما ميثاقاً لتنفيذ ما سبق أن تم الاتفاق عليه في حوارات سابقة.
استغرب الناس من سرعة الاتفاق، ومن مشاهد التقبيل والغزل المتبادل، لكنهم لم ينخدعوا بالمظاهر، ولا خدعتهم، سرعة التوصل إلى تشكيل وإعلان حكومة الوفاق الوطني، ولقد كان دائماً الحس الشعبي العام، أكثر خبرة، وأكثر حساسية، وأكثر مصداقية من كلمات المحللين، والمثقفين والسياسيين على اختلاف اتجاهاتهم.
وخلال هذا الوقت، ومن قبله، اجتهد المجتهدون في تقديم، النصائح، وتقديم أوراق العمل، حتى امتلأت بها الأدراج، وآخرها ما تقدم به النائب جميل المجدلاوي لمعالجة ملف الرواتب، وخارطة الطريق التي تقدم بها رئيس الوزراء السابق الدكتور سلام فياض، لكن أحداً لا يريد أن يقرأ أو يسمع. لم يكن الدكتور فياض، ولا المجدلاوي ولا هاني المصري وفريقه ومؤسسته، يبتغون مصالح ذاتية فكل ما جاء من هؤلاء، ينضح بالوطنية الصادقة، ويتحلى بالموضوعية ورأب الصدع، غير أن للمصالح الوطنية أكثر من تشخيص، وأكثر من قراءة، تستند إلى مبادئ الفصائلية المغلقة، ولا ترى الوطنية إلاّ من ثقب إبرتها.
تتبدل الظروف والمعطيات الخارجية من حولنا، فتتبدّل الأمزجة وتتبدّل الحسابات والمواقف، وتتبدّل المناخات الوطنية العامة التي تغذيها وسائل إعلام حزبية تابعة وموظفة لدى صانعيها.
بالأمس، اندلع اشتباك جديد، هو نسخة عن اشتباك سابق متكرر، بشأن دور الأجهزة الأمنية والسياسية في التحريض الداخلي والخارجي، كل على الآخر، وكل يتهم الآخر بتزوير الحقائق، ما يشير إلى احتمال انغلاق أبواب المصالحة المتعثرة.
الداخلية في غزة تتهم وزير الداخلية وهو ذاته رئيس حكومة الوفاق بالمسؤولية عن تزوير وقائع، وصياغة تقارير، تحرض مصر على "حماس"، وتشرع في مخطط لإشاعة الفوضى والفلتان الأمني في القطاع.
وبغض النظر عن مدى صحة كل أو بعض هذه الادعاءات التي لم يتسنّ لجهة موضوعية محايدة التدقيق في مدى صحتها، فإنها حتى لو كانت كلها صحيحة أو كلها خاطئة، لا تشكل سبباً لغلق أبواب المصالحة بقدر ما تنطوي عليه من مؤشرات سلبية غير عارضة كما في المرات التي سبقت.
إذا كانت الحكومة ورئيسها، وهو وزير الداخلية هو المتهم والمسؤول فإن علينا أن نتوقع موقفاً حازماً حاسماً من قبل حركة حماس يصل إلى مستوى سحب الاعتراف بهذه الحكومة، لكونها تعمل على زرع الفتنة والفوضى بدلاً من أن تعمل من أجل الوفاق الوطني الذي جاءت على فرضية السهر عليه.
ومع أن حركة حماس، كانت قد قدمت هذه المعطيات للفصائل الفلسطينية، دون حركة فتح، التي امتنعت عن الحضور قبل أكثر من أسبوعين، إلاّ أن توقيت إعلانها في مؤتمر صحافي، يشير إلى أن باب المصالحة يغلق، في الوقت الذي تفتح فيه أبواب الفرج لأهل غزة.
مصر الحكومة قدمت طعناً بقرار محكمة الأمور المستعجلة الذي اعتبر كتائب القسام، وحركة حماس مجموعات إرهابية، وفي الوقت ذاته تقريباً يعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن أن مصر قد تعيد فتح معبر رفح خلال وقت قريب. وفي المعطيات أيضاً بداية تجديد حركة حماس علاقاتها بالمملكة العربية السعودية، وانتعاش الحديث وبقوة عن موضوع رفع الحصار عن القطاع، وعن دور قطري نشط في اتجاه الإسراع بإعادة إعمار غزة، وتدفق مواد البناء.
يمتد الحديث ليشمل استعداد حركة حماس للموافقة على هدنة طويلة مع الاحتلال، ما سيؤدي إلى رفع الفيتو عن ملفي المطار والميناء، وملف التعامل الإنساني المدني، وملف العمال والتبادل الاقتصادي، ومعالجة أزمة الكهرباء والغاز. فرج قريب لأهل غزة، وتراجع للمشروع الوطني.
مَن مِن أهل غزة يستطيع أن يرفض تغيير واقع الحال بعد كل الأثمان والعذابات التي ساموها، خصوصاً وأن موضوع دولة غزة الذي تحذر منه الفصائل، غير وارد في هذه الظروف وهو مؤجل إلى حين؟ من الواضح أن إسرائيل تخطط والكل يتجند للتنفيذ، ليس الفلسطينيون وحدهم بل الآخرون أيضاً في الإقليم وعلى المستوى الدولي. متى ترفع النعامة رأسها من التراب.. الله أعلم؟.