ما يجري حول العالم، ينتهي إلى التطورات والمتغيرات الاستراتيجية بعيدة المدى، وعميقة الآثار.
قبل عامين، ومع اجتياح فيروس «كورونا»، كنّا وآخرون، قد وضعنا الأمر، في سياق حربٍ عالمية باستخدام وسائل غير تقليدية، وسائل بيولوجية من اختراع البشر.
خلال تلك الفترة، تبادلت الصين والولايات المتحدة الاتهامات، بالمسؤولية عن اختراع ونشر ذلك السلاح، الذي ضرب اقتصادات معظم دول العالم، بما في ذلك المتقدمة، لكنها الأكثر قدرة على تحمّل التبعات بالمقارنة مع الدول النامية والفقيرة.
غير أن البشر ما كانوا ليصدقوا ذلك، إلّا حين يصدر عن شخصيات سياسية أو عسكرية أو أمنية أو اقتصادية، أو عن مراكز أبحاث ذات شهرة.
في العام المنصرم كان الدكتور طلال أبو غزالة، قد كتب أكثر من مقالٍ، وأجرى أكثر من مقابلة، تحدث خلالها عن حربٍ عالمية ستنشب في العام 2022. أبو غزالة لا يقرأ بالفنجان، ولا هو ضليع في علوم الفلك، لكنه رجل أعمالٍ من نوعٍ خاص، هو عالمي، مطّلع على مصادر المعلومات ولديه كفاءة عالية في تحليل تلك المعلومات.
يعود أبو غزالة حديثاً خلال لقاء تلفزيوني، ليؤكد أن ما يجري على الساحة الدولية منذ أشهر، ما هو إلّا بدايات حربٍ عالمية متدحرجة، ستنخرط فيها دول كبرى وتكتّلات اقتصادية واجتماعية ذات وزنٍ ثقيل في مقدمتها الصين.
ثمة هدف واضح ومحدد لهذه الحرب، التي لم تكن بداياتها العملية العسكرية الخاصة التي شنتها روسيا على أوكرانيا، لأن تلك العملية جاءت رداً على محاولات أميركية لتهديد الأمن القومي الروسي، وزرع الأرض والمحيطات بالقواعد الأميركية العسكرية، فضلاً عن تشجيع النزاعات الطائفية والعرقية الانفصالية في كثيرٍ من المجتمعات.
لقد أعلن الرئيس فلاديمير بوتين، وكرر ذلك بلغةٍ صريحة الرئيس الصيني أن النظام الدولي الذي تتسيّد عليه الولايات المتحدة منذ عقود قد انتهى، وأن العالم يحتاج إلى نظامٍ متعدّد الأقطاب.
لا تعترف ومن غير المرجح أن تسلّم الولايات المتحدة، بهذا التغيير الذي أصبح استحقاقاً، وضرورة موضوعية، ولذلك فإنها تجنّد كل إمكانياتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، للدفاع عن النظام القديم وإفشال محاولات التغيير.
لقد أفرطت الولايات المتحدة في استخدام إمكانياتها، لمعاقبة كل من يحاول التعاون لتحقيق هدف التغيير، وأجهزتها التنفيذية جاهزة كل الوقت لإنزال العقوبات بحق من تتهمه بتقديم خدمة لمن يعملون من أجل التغيير.
ستمائة وخمسون مليار دولار حتى الآن تكلفة التدخل الأميركي لصالح أوكرانيا، وفي آخر القرارات تخصيص مليار ونصف المليار دولار شهرياً، لدعم قدرة النظام الأوكراني على دفع الرواتب وإدارة البلاد.
الولايات المتحدة دخلت الحرب منذ بداياتها، حين جنّدت إمكانياتها واستنفرت أوروبا العجوز، لإفشال العملية العسكرية الروسية الخاصة، سواء بالدعم العسكري النوعي، أو الدعم المعلوماتي، والاقتصادي، أو بالدعم السياسي والدبلوماسي والإعلامي، ما مكّن أوكرانيا من الصمود حتى الآن، ويشجعها على المزيد من الهجمات لاستعادة أراضيها.
هي حرب أميركية حتى آخر جندي أوكراني، وحتى آخر متر من أرض أوكرانيا، وربما لاحقاً من أراضي دول أخرى مجاورة لروسيا.
وهي حرب أميركية بامتياز، حتى آخر دولار في جيوب الأوروبيين الذين يدركون أن دولهم، ووحدتهم واقتصاداتهم مهددة، ومتضررة جداً من هذه الحرب.
خلال السنوات الأربع، لإدارة ترامب، كان الأمر واضحاً، إذ اتبع سياسة تدفيع أوروبا ثمن الحماية الأمنية العسكرية التي تقوم بها الولايات المتحدة، حتى لو أدى ذلك للتضحية بـ «الناتو».
سيتضح أن الأوروبيين سيدفعون ثمن هذه الحرب، فعدا أنهم يواصلون تقديم المزيد من الدعم العسكري والمادي، واللوجستي، وتحمّل أعباء ملايين المهاجرين الأوكرانيين، فإن الولايات المتحدة لن تنجح في حماية اقتصادات أوروبا، أو توفير الطاقة لمصانعها ومجتمعاتها.
بسهولة، تظهر الولايات المتحدة طبيعتها الاستعمارية والأنانية، فلقد أصابها الجنون، حين اتخذت مجموعة «أوبك بلس» قرارها في الخامس من هذا الشهر، بتخفيض الإنتاج من النفط بمقدار مليوني برميل يومياً.
تتحول السعودية والإمارات إلى دولتين معاديتين، لأن قرار «أوبك بلس» من شأنه أن يُحدث خللاً كبيراً في سوق النفط والطاقة ويؤدي إلى نقصٍ فضلاً عن رفع الأسعار.
ينظر الأميركيون إلى ذلك القرار على أنه انحياز لروسيا، وتساوق مع سياساتها، لأن ذلك سيزيد من إيرادات روسيا من النفط والغاز، وسيدعم سياساتها تجاه الدول الأوروبية، باتجاه تعميق أزماتها وتفكيك اتحادها، فضلاً عن خلق تناقضات بينها وبين الولايات المتحدة التي تعجز عن الوفاء بوعودها.
العالم على حافّة الانفجار، فملف إيران النووي لا يزال مفتوحاً وبإمكان إيران أن تتشدد في شروطها من باب استغلال حاجة أميركا لنفطها، والأوضاع متوترة على الجبهة الإسرائيلية اللبنانية.
كوريا الشمالية تجري المزيد من التجارب الصاروخية التي تشكل تهديداً واستفزازاً قوياً لليابان وكوريا الجنوبية.
الولايات المتحدة تقوم بحشد حلفائها في المحيطين الهندي والهادي، وتواصل استفزاز الصين، من خلال تخصيص تايوان بصفقة سلاح تصل تكلفتها إلى مائة مليون دولار.
ولا تكفّ الولايات المتحدة عن إعلان استعدادها لحماية حلفائها، خصوصاً تايوان، وتهديد مبدأ «صين واحدة».
من الواضح أن تحالفات تختفي وأخرى تنشأ في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، وذلك مؤشر على سريان مفاعيل عملية التغيير.
وأخيراً، من يعتقد أن روسيا سترفع الراية البيضاء، فهو مخطئ، وأن الانتصارات التي يعلنها زيلينسكي، لن تعود عليه وعلى بلاده، بالخير.