الحرب في أوكرانيا لا تزال وستستمر في إضفاء طابعها الدولي، الذي يضرب في عمق النظام الدولي أحادي القطب، وقد تشهد تطوراً دراماتيكياً خطيراً، في حال تدحرجت الأوضاع في اتجاه استخدام أسلحة غير تقليدية، سواء تكتيكية أو شاملة.
ومع استمرارها وتصاعدها، تتعمّق حالة الاستقطاب لتشمل في البداية دولاً تحظى بمواقع قوة متقدمة ومتوسطة، إلى أن تصل إلى حالة استقطاب دولي حاد، تفرض على دول العالم، الاختيار بين الانضمام إلى هذا الطرف أو ذاك.
بعد حادثة تفجير جسر القرم، تصاعدت حدة القصف الانتقامي من قبل الجيش الروسي، حتى شملت العاصمة كييف، ولكن هذا القصف حمل، أيضاً، رسالة قوية للنظام الأوكراني، وحلفائه، بما يعني أن روسيا تمتلك ما يمكنها من تجاوز هدف ضم الأقاليم الأربعة، وأن على الغرب ألا يفرح كثيراً على الانتصارات الجزئية التي حققها الجيش الأوكراني.
الولايات المتحدة وحلفاؤها، وكأنهم ينتظرون ذريعة، لزيادة تدخلهم في الحرب لصالح أوكرانيا، أو بالأساس لصالح استراتيجياتهم، أدانوا بقوة ما اعتبروه تصعيداً روسياً، ووعدوا بتقديم المزيد من الدعم والأسلحة النوعية لأوكرانيا.
إزاء ذلك، تواصل روسيا تحذيرها للولايات المتحدة وحلفائها من أنها تقترب من تجاوز الخطوط الحمر، من خلال تقديم أسلحة نوعية فعّالة، قد تدفع زيلينسكي لاستخدامها، ضد أهدافٍ في روسيا، علماً بأن المقاطعات الأربع وشبه جزيرة القرم، التي ضمّتها روسيا قد أصبحت أراضي روسية، بالنسبة لروسيا.
أكثر من ستة أشهر مرّت على الحرب، المتدحرجة، اتخذت خلالها الولايات المتحدة وحلفاؤها سلسلة من العقوبات بحق روسيا، دون أن تظهر على روسيا بوادر الانهيار أو الهزيمة.
تشكو روسيا بالتأكيد نتائج العقوبات المفروضة عليها، ولكن هذه الشكوى تتحوّل إلى صراخ بالنسبة لدول أوروبا، التي تتكبّد الثمن الأكبر لهذه الحرب.
المسألة تتعلّق بالمصالح القومية، وكان على الأوروبيين أن ينتبهوا قبل فوات الأوان أن الولايات المتحدة، مستعدة للتضحية بمصالح أقرب حلفائها، للمحافظة على مصالحها القومية.
تستطيع الولايات المتحدة، تغطية احتياجاتها من الطاقة، بما أنها دولة منتجة للنفط، ولديها مخزون استراتيجي كبير، ولكنها لا تستطيع تغطية الاحتياجات الأوروبية، التي أصبحت رهينة تساوقها مع الولايات المتحدة.
ثمة مثال قريب، لا نظنّ أن دول الاتحاد الأوروبي، يمكن أن تبادر للاستفادة منه وإجراء تحوّل في دورها وسياساتها، نحو حماية مصالحها الخاصة التي تصادرها، سياسات الطرفين الروسي والأميركي.
طيلة عقودٍ طويلة، حظيت العربية السعودية ودول الخليج العربي، بعلاقات تحالفية مع الولايات المتحدة، بل إنها اتخذت طابعاً إلحاقياً، تمادت خلاله الولايات المتحدة في نهب ثروات الخليج العربي.
دول الخليج العربي تحولت إلى مناطق نفوذ أميركية، واستقبلت قواعد عسكرية لا تزال موجودة على أراضيها، فضلاً عن أن دول الخليج العربي بَنَت جيوشها وإمكانياتها العسكرية من خلال شراء صفقات مكلفة من السلاح الأميركي.
حين قررت "أوبك بلس" تخفيض الإنتاج بمقدار مليوني برميل من النفط يومياً، انقلبت المعايير وأصبحت السعودية والإمارات دولتين معاديتين تهدد الولايات المتحدة باتخاذ أقسى العقوبات بحقهما.
كان بايدن قد أبدى ندمه من الزيارة التي قام بها للسعودية قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، لأنه تجاوز بعض انتقاداته وخلافاته مع السعودية بأمل أن يحصل على مكافأة بزيادة إنتاج النفط.
منذ ذلك الوقت، أدركت السعودية، مدى أهمية دورها، ومصالحها، فقررت فقط زيادة الإنتاج بمقدار مئة ألف برميل، لا تُحدث هذه الزيادة أي فرقٍ في أسعار النفط وإمداداته.
كان القرار السعودي مجرد رسالة مجاملة لا أكثر، ولكنها كانت عنواناً، أو أحد العناوين لفشل زيارة الرئيس الأميركي، خاصة أن السعودية والدول العربية الست التي عقدت قمة جدّة، لم تعطِ بايدن إنجازاً يتعلق بهدفه في توسيع "اتفاقيات أبراهام".
الصهيوني بايدن باعترافه العلني، كان هدفه الأول من الزيارة، تقديم المزيد من الخدمات لإسرائيل، من خلال الضغط على دول عربية أخرى للانضمام إلى "اتفاقيات أبراهام"، وفي مقدمة هذه الدول وأهمها السعودية.
السعودية والإمارات انحازتا لمصالحهما، حين وافقتا على قرار تخفيض إنتاج النفط بالاتفاق مع دول "أوبك بلس"، وهي، أيضاً، اختارت أن تحدد موقعها المستقبلي من صراع يتجه لتغيير النظام الدولي الذي تسيّدت عليه الولايات المتحدة لكثير من العقود.
وإمعاناً في الانحياز لمصالحها القومية، بما يُفهم على أنه تحدٍّ للولايات المتحدة، قام رئيس دولة الإمارات بزيارة لموسكو.
في الأصل تجنّبت معظم الدول العربية، إن لم يكن جميعها، الانضمام لسياسة العقوبات الأميركية ضد روسيا على الرغم من حساسية موضوع إيران بالنسبة لدول الخليج العربي.
في هذا السياق، يظهر التصويت الذي أجرته الجمعية العامة على مشروع قرار روسي، بإجراء تصويت سرّي، على مشروع قرار تقدمه الولايات المتحدة يقضي بإدانة ضم روسيا للمقاطعات الأربع، يظهر ذلك انقسام دول العالم، إذ صوتّت ضد المشروع الروسي نحو مئة دولة فقط.
وفي الأساس فإن الولايات المتحدة لو نجحت في الحصول على أغلبية لن تكون كبيرة لصالح مشروعها، فإن تصويتات الأمم المتحدة لا تبدّل واقعاً، ولا تغير أمراً، وإنما قد تستند إليها الولايات المتحدة لتشريع المزيد من التدخل في الحرب، وإرسال أسلحة وذخائر نوعية لأوكرانيا.
مع التداعيات المرتقبة لهذه الحرب المتدحرجة، ينبغي على الفلسطينيين أن يحددوا موقعهم انطلاقاً من قراءة نتائجها المرتقبة، بحيث لا يواصلون الصمت، أو الوقوف عند المبادئ، والقواعد العامة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
إسرائيل أعلنت انحيازها للتحالف الغربي، وهي تنخرط أكثر فأكثر في تلك الحرب، وإن بحذرٍ واضح، ولذلك فإنه من غير المقبول أن يقف الفلسطينيون في المنطقة الرمادية. ما يخدم إسرائيل، ينطوي على ضررٍ للفلسطينيين وقضيتهم، ولذلك، فإن موقع الفلسطينيين هو في الجهة المقابلة للموقع الذي تقف فيه إسرائيل.