إسرائيل «الكيوت».. قليل من الضحك !

b4074a08395cccfa2439721cb44bffc8.jpg
حجم الخط

بقلم أكرم عطا الله

 

 

 

السياسة ساخرة أحياناً، والسياسيون يمارسون فهلوة من نوع ما دون أن يشعروا بالحرج من انكشافهم مع التزايد المستمر في تنامي الوعي العام لدى الشارع وقدرته المتنامية على التمييز وانفتاح التكنولوجيا التي ضبطت كل السياسيين متلبسين بالتناقضات المضحكة بتصريحات تتنافى مع أقوال قديمة لهم حد الانقلاب، أو بتصريحات أخرى تتعارض مع واقع الممارسة. كل هذا جعل كثيراً من السياسيين موضع سخرية.
ليست إسرائيل التي نراها ونسمعها في الآونة الأخيرة لمن يراقبها في الأسابيع الماضية كما بدت دولة هادئة محبة للسلام محبة للقانون الدولي والقانون الإنساني، يا للهول ..! إنها دولة نموذجية وتصلح لأن تكون مقياساً لنموذج الالتزام والسلام العالمي، وربما يلاحق المرء نفسه حد المطالبة بتعيينها حكَماً دولياً على القانون والأخلاق.. إنها تتصرف كالكبار كأن حكماء الفلاسفة تكثفت تجربتهم هناك.
وقعت إسرائيل اتفاقاً سريعاً مع لبنان تنازلت فيه عما تنازلت حتى عن خط الدبلوماسي الأميركي فريدريك هوف الذي وقفت عنده العام الماضي، وبغض النظر عن حالة الاستقطاب الحادة والتي حاولت بقطبيها ليّ حقيقة ما حدث. فالجزء المؤيد لحزب الله اعتبر أن اسرائيل جثت على ركبتيها، فيما الجزء المعارض اعتبر أن الحزب استسلم لإسرائيل.
 ولكن الحقيقة التي لا يمكن القفز عنها أنه لولا سلاح الحزب لما تنازلت اسرائيل عما قرره «هوف»، ولما أنهت المفاوضات على عجل. لكن الأصدق هو ما قاله الصحافي الاسرائيلي رافيف دروكر: لولا التهديد لجعلت اسرائيل المفاوضات تستمر مائة عام.
تلك هي الحقيقة. فتجربة التفاوض مع الفلسطينيين كانت مادة لتسلية الاسرائيلي لا أكثر لأن ليس لدى الفلسطيني ما يهدد به، وكذلك التجربة التفاوضية مع دمشق لم تكن أفضل لأن إسرائيل كانت تعرف حدود القوة السورية. لكن حين يتعلق الأمر بلبنان فإن رئيس وزراء خاض قبل أكثر عقدين دعاية انتخابية على وقع وعد الانسحاب من الأراضي اللبنانية، وعندما يفاوض على الغاز يتذكر قدرة الحزب على الوصول إلى منصة الغاز ومنع إسرائيل من استخراجه.
هنا إسرائيل دولة أخرى لا يعرفها الناس تنسحب من أرض وتفاوض وتتوصل لحلول وسط ! هكذا تصوروا ؟ إنها مثل باقي دول العالم فقط لأن على الجانب الآخر ما جعل قادة الجيش يقولون: لسنا بحاجة لحرب تطال كل مدن اسرائيل، والحديث بالحديث يُذكر فقد أعادت اسرائيل بهروبها المذل عام 2000 من جنوب لبنان صياغة الفكر السياسي في المنطقة عندما تصادف في ذلك العام مشهدان: الأول هروبها في أيار ليلاً تحت وقع السلاح وبعدها بشهرين كانت تخادع كامب ديفيد بالحائز على جائزة نوبل للسلام «ياسر عرفات « لتقول للعقل العربي أن اللغة معها هي لغة السلاح وليس لغة السلام، وأن الاسلام السياسي هو الأقدر على محاورة ومناورة اسرائيل في أكبر ضربة تتلقاها القوى الوطنية في المنطقة لصالح الاسلام السياسي.
وحتى يكتمل المشهد الساخر بعد أن قام الرئيس الروسي بضم أربع مناطق شرقي أوكرانيا، وهذا طبعاً منافٍ للقانون الدولي واستقلال الدول، لكن المدهش هو تأمل رد الفعل الاسرائيلي القانوني جداً... حيث رفضت اسرائيل ضم مناطق بالقوة ...! يا للهول اضحكوا طويلاً على دولة يصدر رئيس وزرائها السابق نتنياهو والمرشح للعودة كتاباً يتحدث فيه عن خذلان الرئيس ترامب لحكومته، حين قررت ضم الضفة الغربية ومازالت طبعاً تستولي على الضفة وتضم مناطق بقوة السلاح ولكنها ترفض ذلك في أوكرانيا ....تصوروا العبث؟
وحتى تكتمل السخرية بالنكتة الجديدة عندما ضربت روسيا مدناً أوكرانية بالصواريخ لم تقبل إسرائيل الأمر، كيف للأخلاق الإسرائيلية أن تقبل اعتداء على شعب آخر؟ طبعاً حاولوا تجاهل ما يحدث في الضفة وغزة لكن الحقيقة أن الموقف الاسرائيلي مدعاة للإعجاب ..! ما هذا المستوى الأخلاقي الانساني الذي يصلح لأن يكون مدرسة سياسية وأخلاقية ويستحق أن يكون قادة اسرائيل مبشرين يقومون بحملاتهم على مستوى العالم يهدون البشرية ويشرحون لها عن أهمية السلام وعن الحب وعن كراهية الحروب ولعنتها، وأن كل شيء يمكن أن يحل بالمفاوضات وبالحوار ولا شيء يستحق كل هذه الصراعات ولو اضطرت الدول لتقديم تنازلات من أجل أرواح الشعوب أفضل من الحروب.
الحقيقة أن هذه إسرائيل جديدة ...لا أعرفها، وأنا من الذين يعتبرون أنفسهم من المهتمين بإسرائيل وتاريخها منذ نشأتها وحروبها ومفاوضاتها ومناوراتها ومعاركها ومذابحها وتنصلها وتلاعبها وسياسييها وتصريحاتهم ومواقفهم. كل هذا أتابعه منذ سنوات طويلة ولكن بعد أحداث الأسابيع الأخيرة «طبعاً إذا تناسينا ما يحدث في فلسطين وضد شعبها باعتبار أن هذه مسألة هامشية «ومتابعتي الطويلة تجعلني أقف مصدوماً أمام اسرائيل جديدة تفاجئني بسلوكها الأخلاقي والتفاوضي. صحيح أن هناك تهديداً يمكن أن يطال مدن اسرائيل ويدمر منصات غازها، ولكن بالتأكيد لم يكن هذا هو الأهم في المفاوضات بل «رغبة الدولة الحكيمة» بتسهيل الحلول تماماً كما سلوكها مع الفلسطينيين.
وباعتبار أن لا أحد في العالم الحضاري قادر على توجيه أي ملاحظة لإسرائيل، وباعتبار أن لا أحد قادر أيضا على الحديث عن تناقضاتها وعن استمرار احتلالها وضغطها على الشعب الفلسطيني ونشرات الأخبار الدائمة بالاجتياحات اليومية، ولا أحد قادر على وقفها أو الوقوف في وجهها، ولأن الفلسطينيين غير قادرين على فضح ازدواجية الموقف والخطاب الصادر من تل أبيب حد السفور فليستمتعوا على الأقل بالقليل من المرح من خلال النكت الساخرة التي باتت تصدر من إسرائيل، بعد أن أصبحت تل أبيب منتجة للنكتة السياسية بجدارة ...أو بمرارة.