للوهلة الأولى يبدو للكثير من الفلسطينيين وغيرهم من المراقبين للشأن الفلسطيني أنه لا يوجد ارتباط بين لقاء لم الشمل الفلسطيني الذي عقد في العاصمة الجزائرية قبل عدة أيام وكانت دولة الجزائر مشكورة قد بادرت اليه، ولقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس بنظيره الرئيس الروسي فلادمير بوتين يوم الخميس الماضي على هامش قمة (سيكا) التي انعقدت في في العاصمة الكازاخية (الأستانة)، وسرعة تقبل الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس لمجموعات عرين الأسود التي برزت خلال موجة الغضب المتصاعدة بل الانتقاضة الثالثة من نوع جديد التي يخوضها الفلسطينيون ضد الإحتلال الإسرائيلي.
إلا أن القراءة الشمولية الموضوعية للمشهد تظهر أن هناك ارتباط وثيق بين هذه الوقائع الثلاث، حيث تبين دلالات هذه الوقائع التي جرت وتجري في الساحاث الثلاث والتي تشكل فيما بينها البيئة الإستراتيجية (المحلية والإقليمية والدولية) لفلسطين والقضية الفلسطينية، أن الفلسطينيين قد دخلوا مرحلة جديدة من مراحل نضالهم لتحقيق حريتهم واستقلالهم مختلفة من حيث السياقات والأدوات والمآلات عما سبق من مراحل، وأنهم أي الفلسطينيين ووفقاً لتحليل مكونات البيئة الإستراتيجية لهم هم الطرف الأقوى في معادلة الصراع مقارنة بعدوهم الإسرائيلي وحلفائه، هذه المعادلة التي بدأت معالمها تتشكل في الوقت الراهن، والتي ستحكم بدورها الصراع في المستقبل القريب والبعيد.
ففي قمة (سيكا) ومن خلال الحديث العلني للرئيسين عباس وبوتين، أكد الأول أنه لم يعد يثق بالولايات المتحدة الأمريكية وأنه لن يقبل أن تظل الوسيط الوحيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين في التسوية السياسية للصراع وذلك لمشاركتها وإسنادها وحمايتها إسرائيل في ظلم الفلسطينيين البين على مدى العقود السبع الماضية، حيث تسمح هذه الأقوال بالاستنتاج ان الفلسطينيين قد تموضعوا في اللحظة الراهنة الى جانب القوى التي تنادي وتطالب باستبدال النظام الدولي الحالي بنظام أكثر عدلاً وأكثر التزاماً بالمبادئ والأسس التي يقوم عليها وأكثر عزما على تنفيذ القرارات التي تصدر عنه، الأمر الذي وضح الرئيس بوتين أنه الغاية والمقصد للحرب التي تخوضها بلاده ضد حلف الناتو في أوكرانيا منذ أكثر من سبعة شهور.
تجدر الإشارة هنا أن النظام الدولي الحالي الذي تبادل على قيادته منذ نهاية الحرب العالمية الأولى في بداية القرن الماضي كل من بريطانيا وواشنطن كان المسؤول عن نكبة الشعب الفلسطيني وظلم الفلسطينيين كثيرا، يعيش مراحله الأخيرة وينذر بميلاد نظام جديد لا تهيمن عليه واشنطن لوحدها، الأمر الذي دفع الأخيرة الى اعتبار العقد القادم عقدا حاسما ومصيريا في نثبيت قيادتها للنظام المترنح الذي تقوده كما تجلى بوضوح في إستراتيجية واشنطن للأمن القومي التي نشرها البيت الأبيض الأسبوع الماضي.
ما تقدم يظهر أن مقولة (أوراق الحل في يد أمريكا) التي حكمت تسوية الصراع في منطقة الشرق الأوسط منذ نهاية سبعينات القرن الماضي لم تعد كذلك الآن ولن تكون كذلك في قادم الأيام، الأمر الذي من جهة يخلخل الركائز التي تقوم عليها نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، ومن جهة أخرى يعزز من نقاط قوة الفلسطينيين، لا سيما وأنهم لم يغادروا بعد ساحة المراهنة على الشرعية الدولية والتسوية السياسية للصراع.
وفي لقاء لم الشمل الفلسطيني في الجزائر، صحيح أن الفلسطينيين لم ينهوا إنقسامهم تماماًولم تكن المخرجات بحجم توقعات الشعب الفلسطيني، إلا ان هذه المخرجات كافية لتعرية رواية دول التطبيع في القمة العربية المتوقع أن تنعقد في الجزائر خلال الشهر القادم والتي ستحمل اسم قمة فلسطين، وعلى الرغم من أهمية ذلك، إلا ان تحقيق الوحدة الوطنية الشاملة تظل أحد شروط الإنتصار، لا سيما وأن أسباب الفرقة والإنقسام خاصة السياسية منها قد سقطت وانتهت، الأمر الذي سيؤدي عدم النجاح في تحقيقها سريعا الى زيادة التآكل في ما تبقى من ثقة للمجتمع بكل المكونات السياسية الفلسطينية التي التقت في الجزائر.
وفيما يتعلق بالشأن الفلسطيني الداخلي فأجادل هنا أن موجة الغضب المتصاعدة في الضفة الغربية والقدس الشرقية وبروز مجموعات عرين الأسود تظهر ان المجتمع الفلسطيني لا زال حياً فتياً وقد بدأ مسيرة التجدد والإنبعاث من جديد لتحقيق غاياته الوطنية العليا في الحرية والإستقلال، لا سيما بعد أن تيقن أن إسرائيل المحمية في طغيانها من قبل لندن وواشنطن ليس بواردها صناعة السلام مع الفلسطينيين وأنها لم تعد شريكا في صناعة السلام كما وضح الرئيس عباس في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر ايلول الماضي.
وعلى ضوء كل ما تقدم فهناك ارتباط بين ماجرى ويجري في البيئة الإستراتيجية الفلسطينية الذي يبدو أنه يجري لمصلحة الشعب الفلسطيني، إذ أنه يكسب فيما عدوه يخسر، لا سيما وأن عنصريته باتت مكشوفة ومثبتة، الأمر الذي يستدعي من الشعب الفلسطيني تصويب أوضاعه لتعزيز أوراق قوته من حيث تطوير استراتيجياته وحسن اختيار أدواته.
*المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي