ملامح انتفاضة

تنزيل (20).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 

 

لا حرب محتدمة، ولا مفاوضات جارية، ولا عملية سياسية قائمة، ولا انتفاضة شعبية.. حالة سكون غير مسبوقة، مع أفق سياسي مغلق تماما.. وهذه الحالة لم يعد ممكنا لها أن تستمر أكثر، فالقضية الفلسطينية تمر في واحدة من أسوأ مراحلها، لدرجة أنها لم تعد تشغل العالم..
داخليا، الشعب الفلسطيني على وشك الانفجار.. لكن الانقسام ما زال قائما، ويعيق أي تقدم سياسي، ويكبح إمكانية قيام انتفاضة شعبية شاملة.. ومع أن اتفاق الجزائر للمصالحة مهم، إلا أنه حسب المعطيات بعيد عن التنفيذ.. يأس في طور التحول إلى غضب.
إسرائيليا، ما زالت الحكومات الإسرائيلية تواصل سياسات التهويد والضم والاستيطان، مع تصعيد في عمليات الاغتيالات والاعتقالات وهدم البيوت.. وتتعامل مع الفلسطينيين (خاصة قطاع غزة) وكأنهم كيس ملاكمة، وتستخدم الدم الفلسطيني كدعاية انتخابية، وترفض تقديم أي بادرة إيجابية تجاه الفلسطينيين حتى لو كانت رمزية وبسيطة (مثلا الإفراج عن الأسير ناصر أبو حميد المصاب بالسرطان في مراحله الأخيرة).. منطق العربدة والغطرسة.
أميركيا ودوليا، العالم مشغول بحرب أوكرانيا، وتبعات أزمة الطاقة، وما يسميه الحرب على الإرهاب، والقضية الفلسطينية في آخر أولوياته، وكل من راهن على تغير الموقف الأميركي بعد رحيل ترامب أصيب بخيبة أمل، فها هو بايدن يواصل تطبيق بنود صفقة القرن، ولكن بلغة دبلوماسية ناعمة، وأقصى ما قدمه للفلسطينيين الدعاء لهم بالتوفيق.. ورئيسة وزراء بريطانيا تعد بنقل سفارة بلادها إلى القدس، أسوة بأميركا.. ازدواجية المعايير.
عربيا وإسلاميا، جميع الأقطار العربية مشغولة بقضاياها الداخلية، ومعالجة تداعيات "الربيع العربي"، فضلا عن دخول دول جديدة في نادي التطبيع .. أما ما يسمى محور المقاومة فقد انتهى بترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية بدعم من حزب الله.. سقوط آخر الرهانات.
بشكل عام، الوضع من سيئ إلى أسوأ، بل إن وضع القضية قبل خمس سنوات كان أفضل، فخلال هذه المدة جرت تراجعات خطيرة: صفقة القرن، موجة التطبيع، تدمير غزة.  
هذا يعني أنه لم يعد لدى الفلسطينيين ما يراهنون عليه؛ لا عرباً، ولا مجتمعاً دولياً، ولا محور مقاومة.. ظهرهم للحائط، وليس أمامهم سوى خيارين، الأول: الرضوخ للأمر الواقع، والتعايش مع حالة السكون القائمة، أي التعايش السلمي مع الاحتلال، وتلقي الضربات منه دون الحق حتى بالاحتجاج.. الثاني: خيار المواجهة المفتوحة مع الاحتلال، إما بتصعيد المقاومة الشعبية، أو الذهاب إلى انتفاضة..
وطبعا، لا حاجة لأي كلام إنشائي عن بسالة وشجاعة الفلسطينيين، وتمسكهم بحقوقهم الوطنية، وبخيار المقاومة.. هذا ما يعكسه الشارع قولاً وفعلاً.
صحيح أن المقدمات اللازمة لاندلاع انتفاضة متوفرة الآن، لكن يبدو أنَّ ولادتها ما زالت متعسرة.
الانتفاضة الشعبية الجارفة ستنشب فقط عندما يلتقي الأمل واليأس معاً؛ أي عندما تصل الجماهير إلى مرحلة اليأس من المجتمع الدولي، واليأس من الحلول المطروحة، واليأس من طريقة إدارة الصراع المتبعة (وهذا كله متحقق)، ويلتقي هذا اليأس مع الأمل بإمكانية التغيير، والأمل بأن الحراك الشعبي سيكون في الاتجاه الصحيح وبالأساليب الصحيحة، والثقة بأن هناك قيادة حكيمة ومخلصة ستقود هذه الانتفاضة بطريقة صحيحة، والأمل برؤية النور في آخر النفق المظلم.. حينها فقط سنكون على موعد مع انتفاضة عارمة ستقلب الطاولة رأسا على عقب. من المؤكد أن حالة اليأس متشكّلة على أكثر من صعيد، أما الأمل فقد كان ضعيفا قبل سنوات، لكنه بدأ يتقوى مؤخرا.
القيادة السياسية أدركت ضرورة تغيير الوضع الحالي، بعد أن يئست من أي حل ممكن أن تقدمه أميركا أو إسرائيل، وأدركت عدم إمكانية حدوث تغيير في الخارطة السياسية، والوضع الإقليمي ضمن معطيات الوضع الراهن، وأنَّ تعامل إسرائيل مع السلطة بوصفها وكالة أمنية أمر مهين جداً.. وهنا يمكن رصد تحول دراماتيكي في خطابات ولهجة الرئيس محمود عباس في الآونة الأخيرة، مثل تصديه لصفقة القرن، وإصراره على الانضمام  لعدد من المنظمات الدولية ضد رغبة أميركا، ورغم تهديداتها.. ويبدو أنه فعلا لم يعد يراهن على المجتمع الدولي، فقد كان خطابه الأخير في الأمم المتحدة موجها بصورة رئيسة إلى الشعب الفلسطيني، مؤكداً "أن صبرنا قد نفد"، وقبلها في برلين قال إن الفلسطينيين تعرضوا لخمسين هولوكست على يد الاحتلال الإسرائيلي.. وفي شباط الماضي تحدث عبر هاتف نقّال يحمله محمود العالول معزيا باستشهاد ثلاثة من كتائب شهداء الأقصى اغتالتهم إسرائيل وحينها قال حرفيا: "ردوا الصاع صاعين"، وفي مكالمات هاتفية أخرى معزيا بشهداء قال: "صبرنا سبعين سنة ونفد صبرنا"..
وقد ترجم هذا التحول عبر موقف السلطة الرسمي، أي تجميدها للتنسيق الأمني، هذا ما أكدته إسرائيل أكثر من مرة، بدليل استعصاء اقتحامات جنين ونابلس، وعدم اتخاذ إجراءات لاحتواء حالة الغليان والعمليات المسلحة خاصة في شمال الضفة، بل إن الصحافة الإسرائيلية أشارت إلى صمت وموافقة السلطة على نشاط المسلحين، بل ودعمهم.. ناهيك عن انخراط عدد من منتسبي الأجهزة الأمنية بشكل مباشر في العمليات المسلحة.. وحسب تحليل بعض المراقبين فإن هذا الدعم غير المباشر مجرد تكتيك مؤقت تمارسه السلطة احتجاجا على السياسات الإسرائيلية في محاولة للضغط عليها.. في حين رأى آخرون أن ما يجري تحول حقيقي في موقف القيادة..
سيظل الخلاف قائما حول مدى جدية وعمق هذا التحول في موقف القيادة، إلى أن تتبنى رسميا خطا سياسيا جديدا، أول تعبيراته تطبيق قرارات المجلس المركزي.. لكن التحول في مواقف القواعد التنظيمية والأطر الجماهيرية أكثر وضوحا.
ويبدو أن حالة من التململ بدأت تتصاعد في قواعد حركة فتح، وإذا ما استمرت دون أن يوازيها خطاب سياسي يرتقي إلى مستوى تضحياتها فستفقد القيادة قدرتها على احتوائها، وفي الأفق ما يشير إلى تغير في موقف الحركة الرسمي، والذي يظهر بوضوح عبر بيانات نعي الشهداء، والمطالبة بالتصعيد والرد والنزول إلى الشارع.. وإذا أردنا الدقة، فإن هذا ليس تغيراً، بل هو عودة إلى نهج وفكر فتح الأصلي.
أبرز مظاهر حالة النهوض تمثلت بسلسلة من العمليات الجريئة نفذتها مجموعات تطلق على نفسها "كتيبة جنين"، و"عرين الأسود".. وأغلب عناصرها من كتائب شهداء الأقصى، وهي اليوم تحظى بدعم شعبي كبير، وأصبح شهداؤها رموزاً وطنية تضاعف من الحالة النضالية الشعبية، كما حدث في القدس ومخيم شعفاط.
أمام تنامي ظاهرة عرين الأسود، ضاعف الاحتلال من التحريض عليها لأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا، كما استغلتها وسائل إعلام مناهضة للسلطة، لأغراض أيديولوجية، وبخطاب دوغمائي هدفه تعميق الهوة بين الشعب والسلطة، وإحداث إرباكات أمنية تخدم توجهاتها الحزبية.