الحرب التي تشن على المقدسيين من أجل " كي" و" تطويع" و"صهر" و"تجريف وعيهم،لا تتم على صعيد واحد،بل هي تشمل كل الصعد وفي كافة الميادين....والإحتلال يسعى لإختراق الوعي المقدسي على أكثر من جبهة ضمن خطط وبرامج ممنهجة تشترك فيها كل أجهزته الأمنية من شرطة وجيش ومخابرات ووزارة داخلية،والمدنية من بلدية ومؤسسات مدنية ومجتمعية ومراكز جماهيرية وشرطة، ولجان اصلاح ولجان عشائرية وغيرها.. ولذلك هذه الحرب،يرصد لها مئات ملايين الشواقل، فعلى سبيل المثال الخطة الخماسية الحكومية 2018 - 2023 لدمج العرب المقدسيين في المجتمع والإقتصاد الإسرائيلي ،رصد لها فقط لأسرلة المنهاج والعملية التعليمية في القدس (875) مليون شيكل من أصل 2 مليار شيكل،الباقي وزع على بقية القطاعات من طرق ومواصلات وغيرها ،ناهيك عن رصد مبلغ 15 مليون شيكل خارج هذا المبلغ سنوياً للمراكز الجماهيرية ..الخ.
لا شك بأن عمليات اختراق جدران حصون " وعينا" حققت بعض النجاحات في قضايا متعلقة في التعليم والمنهاج ،وكذلك على صعيد التقدم في مشروع تهويد المسجد الأقصى .... ناهيك عن سعي الإحتلال الى ضرب المناعة الوطنية عند شعبنا،من خلال عمليات الإختراق في قضايا التطبيع ومحاولة نقله الى المستوى الشعبي والمؤسساتي،يضاف ذلك الى العمل الدؤوب من قبل الإحتلال،لخلق بيئة طاردة للعمل المقاوم لمجابهة مشاريع ومخططات الإحتلال التهودية ،عبر بث سياسات اليأس والإحباط بين صفوف المقدسيين، والقول لهم بأنكم لوحدكم ولن تستطيعوا هزيمة دولة مدججة بالسلاح ولديها أقوى جهاز مخابرات في المنطقة.
ضمن هذه الرؤيا والإستراتيجية شن المحتل حرب نفسية من أجل "تحطيم" المواطن المقدسي،وإشغاله في متوالية من الأزمات،بإخراجه من ازمة وإدخالة في أزمة جديدة... فالمحتل الذي يحاول الإجهاز على المدينة وفرض السيطرة والسيادة عليها عبر الإستيطان المكثف والمشاريع التهويدية، أعتقد بان الفرصة مؤاتية له،لكي "يؤسرل" شعبنا في المدينة،ويجرده من خصاص وعلائم وجوده الوطني،وشطب حقوقه الوطنية والسياسية،مع منحه فقط حقوقا مدنية مقلصة و"مقننة"،محوله الى جزر متناثرة في محيط أسرائيلي واسع،عبر تغيير واقع المدينة الديمغرافي والجغرافي ،وعزله عن محيطه الفلسطيني ،وتغيير المشهد الكلي في المدينة ،من مشهد عربي إسلامي – مسيحي أصيل الى مشهد يهودي تلمودي توراتي مصطنع.
الإحتلال سعى "لأسرلة " العملية التعليمية في المدينة عبر أسرلة مناهجها التعليمية،وإزاحة المنهاج الفلسطيني بشكل كامل من المدينة،وليس الإكتفاء فقط بالمنهاج الفلسطيني " المحرف" أو المعدل"،بل أسرلة شاملة وكلية للمنهاج،وحقق المحتل عمليات اختراقات ونجاحات في هذا الجانب،شجعته لكي يتقدم خطوة على طريق تحقيق اهدافه ومخططاته،وأقدم على تهديد بعض المدارس الخاصة " الإبراهيمية والإيمان" بفروعها الخمسة بسحب ترخيصها ومنحها تراخيص مقيدة،اذا لم تصوب مناهجها بشطب ما يعتبره المحتل تحريضاً في تلك الكتب،والمقصود هنا،شطب كل المضامين الوطنية في المنهاج،وبما يشمل تزوير التاريخ و"تقزيم" الجغرافيا وشطب الرواية والسردية الفلسطينية.
هذه الخطوة التي أقدمت عليها بلدية الإحتلال ودائرة معارفها، شكلت صحوة لأهالي القدس بإتحاداتهم الشعبية من اتحاد لجان اوليا امور ولجان أباء مركزية ومؤسساتهم وقواهم الوطنية ،من أجل استعادة الوعي الفلسطيني،ومنع "كيه"و"انحرافه" و"أسرلته،ونفذت سلسلة من الفعاليات والمناشطات الإحتجاجية،بما في ذلك اعلان الإضراب الشامل في كافة المظلات التعليمية في القدس لمدة يوم واحد،يوم الإثنين 19/9/2022 .
هذا الإضراب شكل محطة مهمة على طريق إستعادة الوعي الفلسطيني،و"تحصين" العملية التعليمية من الإختراق" و"الأسرلة"،وتزييف الوعي وتشويه.
بالمقابل وجدنا بأن المسجد الأقصى ،الذي هو مسجد إسلامي خالص،من بعد اغلاق باب المغاربة من ايلول/2000 ولغاية 2003،والمسيطر على مفاتيحه من قبل شرطة الإحتلال منذ عام 1967، بات في إطار الإستهداف المباشر للجماعات التلمودية والتوراتية،على اعتبار بأن المسجد الأقصى،هو الهيكل المزعوم،والذي يجب العمل على بنائه مكان مسجد قبة الصخرة،ولتحقيق هذا الهدف،كان هذا المشروع التهويدي ينتقل ويتقدم خطوة خطوة،من اقتحامات فردية الى اقتحامات جماعية،ومن صلوات فردية الى صلوات جماعية صامتة،وبعد ذلك صلوات تلمودية علنية،واداء طقوس تلمودية وتوراتية،بما في ذلك السجود الملحمي،ومن بعد ذلك تكثفت الإقتحامات للأقصى،وسعت الجماعات التلمودية والتوراتية، الى استحضار الهيكل المعنوي، عبر إدخال قرابين الهيكل النباتية الى الأقصى من سعف النخيل وثمار الحمضيات وأوراق الصفصاف،وكذلك القيام بعمليات النفح في البوق بشكل جماعي في ساحات الأقصى،ليس فقط كطقس ديني تلمودي توراتي، فالنفح في البوق عمل سياسي بإمتياز،يرمز للسيادة والسيطرة والهيمنة،ولكن يجري تغليفه بالجانب الديني التلمودي التوراتي... ومن أجل العمل على ايجاد قدسية وحياة يهودية في الأقصى واحكام السيطرة الأمنية والإدارية عليه،وتكريس التقسيمين الزماني والمكاني فيه،ألقت الجماعات التلمودية بكل ثقلها وإمكانياتها مدعومة بقرار وضوء أخضر من المستوى السياسي، من أجل حشد أكبر عدد من المتطرفين في ساحات الأقصى في فترة الأعياد اليهودية الممتدة من 26 و27 أيلول الماضي،رأس السنة العبرية و5/تشرين اول ما يعرف بيوم الغفران،وعيد العرش الممتد من 10 – 17/ تشرين أول الحالي،موظفة الفكر التلمودي التوراتي والأسفار والأوامر التلمودية في خدمة تحقيق الهدف،ولكن كل هذا التطرف وهذا الإستنفار،لم يفلح في تحقيق الهدف،بحشد 5000 متطرف في اليوم الثاني من عيد العرش، اليوم الزوجي الأول من بعد السنة السبتية مباشرة، والسنة السبتية،هي سنة "تبوير" الأرض عدم فلاحتها،تأتي مرة كل سبع سنوات ...هذه الإقتحامات المتواصلة والمستمرة،هي بمثابة " بروفات ل" تطويع" العقل الفلسطيني والعربي والإسلامي،وجعلهم ينظرون الى ما يقوم به المتطرفون اليهود من ممارسات وافعال شاذه وصلوات تلمودية وتوراتية وطقوس من نفخ في البوق وسجود ملحمي وادخال قرابين الهيكل النباتية الى ساحات الأقصى كشيء طبيعي وعادي.
ولكن حالة الصمود والممانعة المقدسية من خلال الرباط والإعتكاف وتكثيف الوجود والحضور في الأقصى والتصدي لهؤلاء المتطرفين، وخوف حكومة الكيان من انفجار الوضع من بوابة الأقصى والقدس،واندلاع حرب مفتوحة عنوانها" القدس والأقصى قد يفجر انتفاضة شاملة، لا تطال فقط مدينة القدس وكل الجغرافيا الفلسطينية،بل فلربما تتطور الأوضاع الى حرب اقليمية،ولذلك لم ينجح المتطرفين ومن خلفهم دولة الكيان،في ايجاد قدسية وحياة يهودية في الأقصى،ولم ينجحوا كذلك في " كي" الوعي المقدسي،رغم كل حالة الهرولة والتطبيع العربي الرسمي،وأيضاً فشلوا في " كي" الوعي المقدسي، وفك علاقته بفكر وثقافة وخيار المقاومة ،بل شهدنا تصعيد في العمل المقاوم في المدينة كرد مباشر وطبيعي على ما يرتكبه الإحتلال من جرائم وقمع وتنكيل بحق شعبنا ،أرض وبشر وتدنيس واقتحامات بحق مقدساتنا وفي مقدمتها الأقصى...ولعل ما شهده مخيم شعفاط عقب العملية النوعية والجريئة التي نفذها شاب فلسطيني ضد جنود الإحتلال على حاجز شعفاط، مساء السبت 8/10/2022،والتي أخرجت دولة الكيان عن طورها،مما دفعها لفرض حصار شامل وعقوبات جماعية بحق سكان مخيم شعفاط وعناتا وضاحية السلام ورأس خميس ورأس شحادة،عقوبات شلت كل المرافق التجارية والإقتصادية والمواصلات والتعليم،ولم يسمح حتى للحالات الإنسانية من مرضى الكلى والأمراض المزمنة بالخروج الى المراكز والمشافي الطبية،وما رافق ذلك من قمع وتنكيل وفرض مخالفات وعمليات دهم وتفتيش واعتقالات...كل ذلك لم يفت من عضد سكان المخيم ولم يكسر إرادتهم،بل قالوا بأننا سندافع عن وجودنا ومخيمنا،رمز نكبتنا ،وسنبقى متمسكين بحقوقنا وثوابتنا،وبحقنا في العودة الى أرضنا التي هجرنا منها،وحق عودتنا لن يسقط بالتقادم.
يبدو بان الفلسطيني بعد مرور ما يقارب الثلاثين عاماً على كارثة اوسلو يستعيد وعيه،وبات على قناعة تامة، بأن هذا الإتفاق البائس الذي تخلى عنه المحتل،ولم يتبق منه سوى التنسيق الأمني والتبعية الإقتصادية ،لن يقود الى احقاق حقوق شعبنا الفلسطيني،وهو لن يحرر أرضاً ولن ياتي بدولة ،ولذلك يعلن هذا الشعب الطلاق مع هذا النهج والخيار والقائمين عليه.