رسالة إلى الفصائل الفلسطينية: انتظروا دَّرْس عمليات الضفة

حجم الخط

بقلم: المتوكل طه

 

 

لنبدأ من الطرقات التي تربط بين محافظات الضفة الغربية، والتي كانت آمنةً، نذرعها .. نذهب ونعود، دون أن نخشى شيئاً! كان هذا خلال سنيّ الانتفاضة الأولى وحتى توقيع "أوسلو"، وكان المستوطنون المتطرّفون، الذين احتلوا ذُرى الجبال، وعبّروا، بدقّة وبراعة، عن أنهم يستخلصون العِبر، وأكّدوا أنّ "فوبيا مسّادا" ما زالت فيهم ، هؤلاء المستوطنون كانوا لا يتجرؤون على المرور بمركباتهم وسياراتهم، من تلك الطرقات. أما اليوم، وخلال هذه الأحداث وما قبلها! فإن المعادلة انقلبت علينا وعليهم مئة وثمانين درجة، فأصبح المستوطنون في أمان واطمئنان تحت حراسة جيشهم التوراتي المتطرّف،ثمّ راحوا يختبئون من رصاص الشباب المباغت .. ثم يخرجون مفزوعين متمنطقين بالجنون.. وأصبحنا نرهب المرور بطرقاتنا أو عبورها .. حتى تكرّس السجن، وأصبح الفصل العنصري، أي إغلاق المدن والقرى ومحاصرتها ، من قوات الاحتلال الإسرائيلي، فصلاً أكثر وحشيةً وعنصرية من "أبارتهايد" جنوب أفريقيا، وبذلك تفوّقت نابلس أو جنين على "سويتو"، وأصبح مانديلا الإفريقي آلافاً مؤلفة في باستيلات الاحتلال، الذي استطاع، وبجدارة ساديّة عالية، أن يُعيد إنتاج أعتى أشكال القمع، على جلودنا وأرواحنا.
وكردّ حاد وحاسم، جاءت عرين الأسود ومن قبلها مخيم جنين العظيم ، بهذه العمليات الفدائية المسلحة الخاطفة، على كل أشكال الاحتلال الاسرائيلي في ظل ظروف مختلفة ، الأمر الذي يجعل من هذه النتوءات الدامية حلقات لن تتوقّف، وستتواصل وتبقى، حتى يحصل الفلسطينيون على أدنى حقوقهم الوطنية، وإنْ قام الاحتلال بالدّهم والقنص والاعتقال والملاحقة ، بهدف اجتثاث الظاهرة.. لأنها ستتوالد، بالضرورة، ردّاً على سياسات الاحتلال وفظاعات مستوطنيه.
وبالرغم من أن الخطابات السياسية والإعلامية الصادرة عن فصائل الفلسطينيين الذين، اتفقت لغتهم، نسبياً، على مباركة أهداف هذه العمليات، إلى حدّ ما، فإن أحداً لم يعجم هذه الأهداف، ولم يفحص فيما إذا كانت "تحمل" جَنيناً لأحداث كبرى ممتدة وربما تكون انتفاضة جديدة ! أم أنها ردّة فعل سيتواصل بشكل متباعد وفردي ، تعبيراً عن حالة الاحباط العامة واليأس الآتي من ما تقوم به دولة الاحتلال ، وبسبب عجز القوى الفلسطينية التقليدية؟
وثمة اتفاق معلن، بين كل أبناء الشعب، على مباركة هذه الوقائع، في ظل الانغلاق السياسي وتعثّر المصالحة وتواصل الاستيطان والقمع الاحتلالي، ما يفسح المجال، عاطفياً، لهذا التجلّي الملموس للوحدة الوطنية في الشارع الفلسطيني، الذي يتجاوب، فوراً، مع أيّ نداء يصدر عن شباب البنادق المشرعة .. لكننا لم نتأكد بعد بأن المصالحة ستتجلّى مساندة لهذه الروح الجامحة ،التي تعبّر عن نفسها بغير صورة وشكل، لأن شروط المصالحة مرتبطة بمفارق إقليمية وبالمصالح الحزبية والذاتية للأطراف الفلسطينية .. وما لقاءات الجزائر- للأسف الشديد إلا علاقات عامة، وكاميرات ،وتصدير للأوهام المُحبِطة، ستذروها الرياح.
وإننا نلمس مسألتين : الأولى أن بعض الفصائل الفلسطينية لم تحسم أمرها كلياً للدخول أو لدفع عناصرها في أتون هذه التجلّيات المسلّحة، إلا بمقدار لفظيّ، لأسباب كثيرة، فيما تعلن الفصائل الأخرى دعمها، البعيد، وتهانيها للشهداء!
ولعل الأحداث تكشفت ضعف ثلاثة عناوين في الساحة الفلسطينية، أولها السلطة الوطنية التي يستبيح الاحتلال الإسرائيلي "أراضيها"، وثانيها المؤسسات الأهلية والمجتمع المدني، والثالث قوى المعارضة الفلسطينية، التي لم تثبت أن لديها أي تصوّر أو استراتيجية، موازية للردّ على استراتيجية الاحتلال، وإجراءاته التي تندفع وتفرض واقعاً يؤسّس لمعادلة جديدة للمستقبل، ولم تولّف هذه الفصائل، ولو نظرياً، إجابات مطلوبة لكل الأسئلة الحارقة والممضّة، عدا غياب جارح لمعظم النقابات والاتحادات والنّخب، التي لعبت في الانتفاضات السابقة دوراً مشرّفاً وعميقاً وواسعاً ومتقدماً.
وهنا لا أريد أن أشير إلى غياب بعض الأجهزة إلى حدّ كبير، خصوصاً أن حضورها الفاعل مطلوب الآن، أكثر من أي وقت مضى، حتى تقوم بحراسة الكوادر الفلسطينية التي تتم تصفيتها، وكذلك باعتقال الأصابع الخفية، ودفع دماء جديدة لإنعاش عمليات حماية الناس والمواطنين البسطاء .. وتطويرها، هنا وهناك! وهي أجهزة وطنية بامتياز، وخاصة أننا أمام موسم قطاف الزيتون، ما يتطلّب حماية للمزارعين أمام تعدّيات المستوطنين المسلّحين.
أما غياب الإعلام، فهذا ما يتحدّث عنه الكثيرون، ولن أخوض في مياهه الواسعة! بالرغم من أن هذا الغياب يؤدي إلى سيطرة موقف الآخر النقيض إقليمياً وعالمياً، ويشيع الشائعات السوداء في صفوفنا، ويشكّل خطورة بالغة كحرب نفسية مسلطة علينا، في ظل غياب المعلومة الصحيحة والمستندة إلى المعطيات والوقائع، وبلسان مبين. ولا أقصد هنا الإعلام المحلّي فحسب، بل الإعلام الذي يجب أن يُخاطب العالَم بلغته وطرائقه الحداثية .
ولعل الشباب والفتيان الجسورين، ودون مبالغة، هم القوة التي تقود ردّة الفعل، ومن خلفها كل أبناء شعبنا! رغم أن الاحتلال الإسرائيلي حاول أن يضرب حركة الشباب، بغير أسلوب عنيف وغير مباشر.. ولن يتوقّف عن ذلك.
ولعل السلطة الوطنية الفلسطينية في وضع، أقل ما يوصف به، بأنه مضغوط! وتبدو دون أي دعم اقتصادي أو مالي أو سياسي نوعي قوميّ أو جماهيري يذكر، لتقوية السلطة ومدّها بأسباب الاندفاع والتقدم، بل إن الضغوطات السياسية التي تُمارس على السلطة، لم تتوقّف، ناهيك عن ضغوطات بعض "الأصدقاء" في العالم.
لهذا أعتقد أن لا خيار أمامنا، نحن الفلسطينيين، إلا الاستمرار في استحداث كافة أشكال المقاومة السلمية والممكنة حتى النهاية.
وعليه، ينبغي أن نحدد خطابنا ونعلنه واضحاً لا لبس فيه، وأن نعيد توظيف أوراقنا وإطلاق قدراتنا المعطّلة واستنفارها، وأن نبحث عن آليات إضافية، ونطوّر الأساليب النافذة المؤثرة، في مواجهتنا للاحتلال وعدوانه الدموي، وأن ننتظم جميعنا في الناظم الوطني الذهبيّ، على قاعدة أن الجميع في مواجهة الاحتلال، سلطةٌ وفصائل وجماهير، وأن نبتعد عن كل ما يثبّط عزائمنا واندفاعنا المقدس، لا لشيء، إلا لأن ألسنة مسؤولي الدولة الاحتلالية ما فتئت تؤكد أن هدفها تركيع فلسطين وأهلها وفصائلها، وفرض الرؤية الاسرائيلية، فهل نضيّع المزيد من الوقت فيما هو غير مفيد، في حين تنتظرنا قضايا حيوية ومصيرية شديدة الخطورة والأهمية ؟
***
ثمة جَنينٌ يخفق بين أضلاع الشهداء، وثمة لغةٌ بكماء لا يفهمها الجنود الذين لا يعرفون سوى رطانة القنابل والرصاص، وثمة مَعْبَرٌ للاغتيال الفسيح، يبتلع الأبرياءَ والطيورَ والأشقاءَ الذاهبين إلى المدينة ، وثمة حياةٌ لا تقدّم إلا الموت في ظلّ احتلالٍ سرق المدينةَ والقريةَ والحقلَ .. وترك لنا الحسرةَ والفجيعة.
وسنبقى في البلاد التي لم تغلق بيت العزاء منذ قرن، وطرّزت الدماءُ شوارعَها المتربة، فاستفاق الطيّون على رصيفه الدامي، وغصّت الفرفحينةُ بعلقم الشقائق المتخثّرة، وصارت ثياب نسائها تقطر بالدمع والسواد، بعدما تزيّت الغلالاتُ، ذات عُرْسٍ بالدوالي وعروق الذّهب، وفاضت على الأكتاف سلالُ المنثور والحبق وخيوط الجنّة والنار الحريرية.
لعل الشهداء أرادوا أن يقطعوا المسافة نحو الشمس، فانطفأ الزمان في احتراق المسافات، وما زالوا مذبوحين في مدينة السلام المظلمة.
لقد نظر الشهداء إلى بعضهم البعض ، فتشابكت حولهم جذور الأبجدية، والتفّت حولهم، وصعدت، وتطاولت، حتى احترقت ببرق الشتاء، فانفلق اللبّ، وفاض الجمر، واشتعلت الغيوم، ودبّت النجوم في السماء.
وما زلنا ندرك بأنّ المؤامرةَ تحزّ بسكّينها المثلومة في أرواحنا ، بل نحن الذين نمرّر النّصل على أوردتنا ونقطّع شراييننا ، باختلافنا وفرقتنا وتوزّعنا المشبوه ، وباقتتالنا وتشظّينا وتصادم أكتافنا على الخازوق .. وكلّ ما لدينا منهوب ومأخوذ ومسروق ، بالقوة والسياط والابتزاز .. وما زلنا نتشدّق بمفردات الوطن والدّين والثوابت ؟ أليس كذلك يا فصائلنا العزيزة؟؟
ألمْ نلحظ ، بعد ، أننا نخيط أكفاننا بأيدينا ونحفر قبورنا بمعاولنا ، وندفن ما ظلّ من فلسطين في قبر الانقسام والتحكّم والمكاسب الشخصية والانحياز إلى الشيطان .. أيتها الفصائل المقاومة الحريصة الحافظة للآيات والقلاع والمبادئ ؟! ما الذي تبقّى لديكم أيتها الفصائل لتقولوه أمام الشواهد والأسرى والأيتام والشجر المخلوع عن عرْشه الأبدي ؟
يا سادةَ الفصائل : هل ثمة لغةٌ تصلح لرواية ما جرى من حرقٍ وخلعٍ ودَهْمٍ وسجنٍ وهدمٍ ومصادرةٍ وإذلالٍ وحصارٍ وتجويعٍ وصفاقةٍ وتبجّحٍ واغتصابٍ وقتلٍ واستباحةٍ .. في طول البلاد وعرضها ؟
إنّ عنف الاحتلال وديناميته وذهابه نحو القتل المباشر الحاسم يؤكد أنه مرعوب من هذه الأحداث ولا يريد لها أن تتكرّر ، وإنه لا يفهم إلا لغة الرصاص والموت والملاحقة ..
فإلى متى ؟
إن التاريخ سيلعن كلّ قوة تتاجر بالدم أو الدّين أو تجهش باللغة .. ولا تفعل شيئاً غير الفرجة الخاسرة.
انتظروا ؛ ثمّة باب سينشقّ بفعل جِنين والعَرين ونبض الطرقات، وسيأخذنا إلى القدس والخلاص! بعد أن يلقّن المستوطنين درساً في الاختباء، ويعلّم تجّار السياسة وأصحاب الخطابات البائسة، أن يصمتوا.