يمكن القول وبعد تداول سلسلة من الأخبار، ومرور أكثر من أسبوع على مؤتمر "لمّ الشمل" الفلسطيني وظهور صور للمجتمعين في الجزائر، وصور تواصل بانتظام عرض تقدم المجتمعين بالعمر وأثر الزمن في ابتساماتهم، يمكن القول بثقة إن الانقسام الفلسطيني باقٍ ولا خوف عليه.
محاولة الجزائر كانت الأخيرة في سلسلة متلاحقة من محاولات إقناع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية والقيادة المتنفذة للسلطة، أن الوحدة في مواجهة الاحتلال وفاشية المستوطنين وتجاهل العالم وتخلي الكثير من الأشقاء، هي أمر جيد لشعبهم وقضيتهم ومشروعهم الوطني، محاولة تضمنت وعداً بخمسين مليون دولار لتغطية "مصاريف الوحدة".
الأمر يبدأ قبل ذلك بكثير، قبل الصورة وقبل إعلان كل فصيل، بشيء من الاعتداد، تلقيه دعوة الى المشاركة في اللقاء...، يبدأ من نقطة اختيار المتحاورين ومن الحمولة الزائدة لأسماء لا تتمتع بأي حضور شعبي، ومن وجود أشخاص عالقين في مخازن الأمتعة وملفات الأرشيف يجري اخراجهم من الحقائب القديمة ووضعهم على مقاعد "الحوار الوطني" كبديل دائم للشعب، أشخاص يمكن وصفهم بدقة كأحداث مؤسفة أو أعباء على كل شيء؛ على الشعب والحوار، كل أنواع الحوارات؛ حوار وطني، وحدة، مصالحة، حقوق نقابية، حرية تعبير...، أعباء على المصلحة الوطنية والوحدة والوظائف والموازنات...، ورغم ذلك يواصلون إخراجهم من جيوبهم ومن الرفوف والحقائب والمبردات في كل مناسبة وزجهم في حياة الناس، تلك عملية إغراق لم تتوقف منذ عقود لكل محاولة للتغيير.
بمهمة وحيدة يتجولون هي إفساد الحياة الوطنية ومع كل لقاء تتراجع الوحدة وتتفكك مفاصلها.
في اللحظة الأخيرة وبعد تدبيج الاتفاق وصوغه، يمكن القول إخراجه من الأدراج من دون بذل أي جهد أو استخدام مخيلة أو محاولة ابتكار، لغة عامة مستخدمة جرى ترحيلها من اتفاقات "مصالحة" سابقة، وحديث عن تضحيات "شعبنا" وضرورة الوحدة والحرص عليها الى آخر المكونات الراسخة في الخطاب الرسمي والفصائلي الفلسطيني التي تشكل المحفوظة التي يغنيها جميع المشاركين بطبقات صوتية متفاوتة.
وصل الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبّون صاحب المبادرة في خطوة تتجاوز البروتوكول، في محاولة لمنح النص نوعاً من الرصانة، ووقف خلف الموقعين وبارك الاتفاق، الذي سيحمله ضمن ملفات مؤتمر القمة المقبل في الجزائر بعدما وصفه بالتاريخي.
بعد ساعات سيصل اتصال من قيادة السلطة في "كازاخستان"، الرئيس ونائبه أمين سر اللجنة التنفيذية ووزير الخارجية ورئيس جهاز المخابرات، تغيبوا عن المشاركة وذهبوا الى كازاخستان، في إشارة أضعفت مسبقاً جدية المسعى في الجزائر. الاتصال وصل غالباً الى عزام الأحمد، اتصال سيعيد كل شيء الى المربع الأول، الاتفاق والعبارات والإنشاء الوطني والصور، بما فيها ابتسامة عزام الأحمد عضو لجنة "فتح" المركزية وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والمبعوث الدائم لمصالحات غير متحققة. مضمون الاتصال كان تحفّظ القيادة في كازاخستان عن البند السابع من "الاتفاق" الذي يتحدث عن تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتطالب، القيادة، بتوضيح التزام الحكومة المقترحة، بالقوانين الدولية وبشكل أكثر تحديداً بشروط اللجنة الرباعية. سيحذف، كحل للخلاف، بند "الحكومة" التي تتلخص مهماتها في الإشراف على تنفيذ بقية البنود بما فيها الإعداد لانتخابات رئاسية وتشريعية وللمجلس الوطني حيثما أمكن.
الآن لم يعد هناك اتفاق، لدينا رسالة نوايا ستسمح في عصور آتية بتحليل شيوع اللغة الركيكة والمحسنات البديعية في مراسلات الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، ولقطات مصورة لأشخاص يمسكون بأيدي بعضهم بعضاً ويبتسمون بسعادة غامرة لأسباب غامضة.
على الأرض في الشارع الفلسطيني بعيداً من كازاخستان والجزائر لا يسمع تصفيق، لا أحد يصفق للصورة. في فلسطين يحبون الجزائر ويثقون بنواياها وبجدية المبادرة، ولكن الشكوك تكتنفهم عندما يتعلق الأمر بجدية المشاركين من الفصائل والسلطة، وتتحول هذه الشكوك الى يقين عندما يجري كل شيء تحت سقف "أوسلو" ومضاعفاته، الجهة الوحيدة التي كانت تعرف أن نتيجة "لمّ الشمل" ستكون مزيداً من قوة الانقسام، هم الفلسطينيون.
على الأرض أيضاً واصلت الضفة الغربية التحرك من دون التلفت نحو الجزائر وكازاخستان، وبرزت مجموعة "عرين الأسود" في نابلس، الظاهرة التي تشكلت عبر تراكم عفوي تأسس على تجاهل القيادة وتحييدها، القيادة المقصودة هنا هي قيادة السلطة وقيادات الفصائل، نوع شعبي من الاستغناء عن حكمة وأدوار "النظام" الذي تشكل في فلسطين بعد "أوسلو".
"عرين الأسود" رغم حماسة الاسم وبلاغته هي امتداد لـ"كتيبة جنين"، الظاهرة التي انطلقت من فكرة تجاهل أطراف الانقسام نفسها، والتي تضم مجاميع من الشباب أعضاء الفصائل، "فتح" على وجه الخصوص، وبعض منتسبي الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، ما يجعل من الظاهرة ملاذاً ونقطة جذب خارج "إدارة الانقسام" وتقاسم الحصص، وهي ظاهرة مرشحة للانتشار والتقدم من الشمال نحو الوسط الى الجنوب. لعلّ استشهاد الشاب المقدسي عدي التميمي، الذي بدا اسطورياً، بعد تنفيذ عمليتين في شعفاط ومدخل مستوطنة معاليه أدوميم، هي الإشارة الأهم الى وصول ظاهرة "الخارجين على الفصائل" الى العاصمة.
الخروج على الفصائل، فصائل اليسار على وجه الخصوص، عملية متدحرجة تتقدم منذ عقد الثمانينات من القرن الماضي. أعداد كبيرة من الكوادر والإعلاميين والمثقفين انتقلت من مواقعها الحزبية والتقت خارج غرف الأحزاب واجتماعاتها مشكلةً تياراً اجتماعياً نشطاً ومؤثراً، في الإعلام ومنظمات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث، وهو ما تشهده الآن، بدرجة أقل، حركات الإسلام السياسي، "حماس" تحديداً، ولكنها المرة الأولى التي تصل فيها الظاهرة الى الأذرع العسكرية على أيدي شباب ولد معظمهم خلال الانتفاضة الثانية أو بعدها، ما يمنح المشهد الفلسطيني أبعاداً جديدة جوهرها الاستغناء عن نظام ما بعد أوسلو ومكوناته، والخروج من أوسلو لمواجهة الاحتلال على الأرض.
ما حققه مؤتمر "لمّ الشمل" في الجزائر هو تعزيز ثقة الشارع الفلسطيني بضرورة تغيير "النظام" بشقيه، والانتقال من إهماله الى الاستغناء عنه كمقدمة لتحقيق الوحدة.