رغم كل ما يمكن أن يقال عن النتائج السلبية المدمرة لهزيمة حرب حزيران 1967 إلا أنني أعتقد بأنه كانت لها أيضا نتائج إيجابية لا يستطيع أحد انكارها وخاصة اذا نظرنا اليها من خلال منظار شمولي لأوجه الصراع مع الحركة الصهيونية على أرض فلسطين.
فقد نجحت هزيمة حزيران في إعادة توحيد الأرض الفلسطينية من خلال إزالة الأسلاك الشائكة وحقول الألغام التي كانت تفصل بين فلسطين التي احتلت عام 1948 وأصبحت تدعى إسرائيل، وبين ما تبقى من فلسطين وأصبح يدعى فيما بعد بالضفة الغربية.
والذين عايشوا تلك الحقبة من عام 1948 حتى عام 1967 يذكرون كيف أن نهاية العالم كانت تقف على طول الخط الأخضر - خطوط الهدنة لعام 1948- مع إسرائيل وكيف أننا في الضفة الغربية لم نعد نعرف شيئا ً عمن بقوا في الداخل وأننا فقدنا أي اتصال أو تواصل معهم سوى في الأعياد المسيحية حين كان بعض الأخوة المسيحيين يفدون عبر بوابة مندلبوم للزيارة الدينية المحدودة جدا ً، وكيف أصبحنا نذوب تدريجيا في بوتقة الوحدة بين الضفتين الغربية والشرقية فأصبحنا مواطنين أردنيين، الى أن جاءت نكسة حزيران لتزيل الحدود بيننا وبين أشقائنا داخل فلسطين وتضعنا وجها لوجه أمام حقيقة كدنا ننساها أو ربما أريد لنا أن ننساها وهي أن الشعب الفلسطيني ما زال حقيقة قائمة ينهض كطير الفنيق من تحت الرماد ، وما تلا ذلك من فك الارتباط مع الأردن من جانبه عام 1988 بعد أن أدرك هذه الحقيقة.
توحيد فلسطين شعباً وجغرافياً
فالذي حدث نتيجة لاحتلال عام 1967 كان بمثابة إعادة توحيد لأرض فلسطين وإعادة توحيد لشعب فلسطين على جانبي خطوط الهدنة لعام 1948 ، وإعادة بعث للشعور الوطني القومي الفلسطيني.
لم تكن هذه الحقيقة واضحة في السنوات الأولى للاحتلال حيث كان الكثيرون يتوقعون انسحاباً إسرائيليا من الضفة كما انسحبت إسرائيل رغما ً عنها من قطاع غزة بعد احتلاله عام 1956. ولكن كلما طال أمد الاحتلال كلما تعمق الشعور الوطني الفلسطيني بين أبناء الأجيال التي توالدت بعد النكسة الى أن وصل ما وصل اليه اليوم، وازدادت معه قوة الوشائج والروابط بين أبناء الشعب الواحد في الضفة والداخل.
أضف الى ذلك أن هناك علاقة جدلية فحواها هي أنه كلما ارتفع منسوب العنصرية والتطرف اليهودي والتمييز ضد العرب كلما تعززت الروابط بين أبناء الشعب الواحد على جانبي الخط الأخضر، وها نحن اليوم نقف شعباً واحداً ضد العنصرية والتطرف. فقانون يهودية الدولة الذي ينكر على أبناء شعبنا في الداخل حقهم في الدولة التي تحكمهم والتي قامت على حساب مقدراتهم وممتلكاتهم ومعاناتهم هو في نفس الوقت وبالترابط مع استمرار الاحتلال والاستيطان في الأراض المحتلة عام 1967 ، المؤشر الذي يؤكد أن الشعب الفلسطيني مستهدف برمته على طول وعرض أرض فلسطين التاريخية وأن الوسيلة الأقوى أمامه للدفاع عن نفسه هي التلاحم والتكاتف والوقوف في خندق واحد ضد العنصرية والاحتلال والقهر.
وفي هذا الصدد فإنني أتفق مع من يقول من الإسرائيليين بأن أرض فلسطين التي يسمونها أرض إسرائيل لا تتسع لدولتين بل يجب أن تكون دولة واحدة. وأنا أدرك بأن القيادة الفلسطينية التي تبنت حل الدولتين منذ اجتماع المجلس الوطني بالجزائر في تشرين ثاني 1988 لم تفعل ذلك لأنه كان خيارها الأول وإنما فعلته استجابة للرغبة الدولية بعد أن انخدعت بفكرة أن قبول حل الدولتين سيلقى دعماً وقبولاً دولياً، وقبولاً من شريحة واسعة من الشعب الإسرائيلي.
واليوم وبعد قرابة ثلاثة عقود من بدء عملية أوسلو وتصحرها في مكانها واستحالة تحقيق حل الدولتين نتيجة لاستمرار الأنشطة الاستيطانية في الضفة والقدس الى حد بلغ فيه عدد المستوطنين في الأراضي المحتلة أكثر من سبعمائة ألف مستوطن منهم نصف مليون مستوطن بالضفة يشكلون قوة انتخابية مؤثرة في الحياة السياسية الإسرائيلية ومنهم وزراء ونواب كنيست وقضاة في المحكمة العليا وقادة في الجيش والأجهزة الأمنية، فإن علينا أن نشطب من قاموسنا السياسي أي حديث عن وهم حل الدولتين، وأن نعيد النظر في برنامجنا السياسي وطريقة تعاطينا مع الاحتلال الإسرائيلي.
واذا كان حل الدولتين لم يعد ممكنا من ناحية عملية فإن حل الدولة الواحدة ذات الحقوق المتساوية بين مواطنيها لا يبدو هو الآخر ممكنا ً أو سهل المنال في الوقت الراهن، لأن اليهود يريدون دولة يهودية ويرفضون من حيث المبدأ مشاركة غير اليهود في نفس الدولة.
وبالرغم من اضمحلال فرصة حل الدولتين وإصرار اليهود على رفض الدولة الديمقراطية الواحدة إلا أن الواقع المتبلور على الأرض سيظل يدفع باتجاه الاستقطاب بين العرب واليهود من جهة وبين المشروع الاستيطاني العنصري والمشروع الإنساني الديمقراطي من الجهة الثانية.
المشروع الصهيوني ينقلب على نفسه
ولا شك بأن نظرة الى ما يجري على الساحة الإسرائيلية تكشف لنا بوضوح كيف أن المشروع الاستعماري الاستيطاني اليهودي الذي بدأ على هذه الأرض مستلهما ً فكره من عهود الاستعمار في القرنين الثامن والتاسع عشر وحاول استغلال الدين اليهودي كغطاء لتبرير وجهته الاستعمارية، قد أصبح اليوم ينقلب على نفسه وأصبح يتحول تدريجيا ً الى حركة مشيخية دينية متطرفة تشكل خطراً ليس علينا فقط سواء في الداخل او في الأراضي المحتلة عام 1967 وإنما أيضا على اليهود غير المتدينين الذين وجدوا في الحركة الصهيونية فرصة للمغامرة الاستعمارية "الكولونيالية" وليس بهدف إقامة دولة دينية.
إن ما نشهده اليوم من ارتفاع نسبة المؤيدين للصهيونية المتدينة واتساع قاعدتها وتحولها بقيادة، تلميذي مئير كهانا، بن غفير وسموترتش الى الحزب الثاني في إسرائيل بعد الليكود، لهو خطر لا بد من التنبه إليه والاستعداد لمواجهته والادراك في نفس الوقت بأن إسرائيل تحولت من دولة تشكل ملجأ لليهود من الملاحقة، الى دولة مشيخية متطرفة ستقوم هي نفسها بملاحقة واضطهاد اليهود غير المتدينين والتضييق عليهم وعلى غير اليهود في نفس الوقت. وهذا التحول يجب أن يكون مؤشراً الى إمكانية خوض صراع مشترك بين القوى اليهودية الديمقراطية والعرب من جهة وبين اليهود المشيخيين العنصرين من جهة أخرى، وسيكون التحالف في هذا الصراع هو المدخل لإقامة الدولة الديمقراطية الواحدة بعد دحر العنصريين والمتطرفين المشيخيين الذين يريدون إقامة دولة "هلخه" يهودية.
الطريق طويل ولكن الأيام القادمة ستثبت أن لا مكان للفاشية والعنصرية وأنه لا يصح إلا الصحيح، وأن فلسطين التاريخية لا تتسع إلا لدولة واحدة، دولة ديمقراطية لكل مواطنيها.