إسرائيل من دولة كولونيالية الى مشيخية

تنزيل (16).jpg
حجم الخط

بقلم:المحامي زياد أبو زياد

 

 

رغم كل ما يمكن أن يقال عن النتائج السلبية المدمرة لهزيمة حرب حزيران 1967 ‏إلا أنني أعتقد بأنه كانت لها أيضا نتائج إيجابية لا يستطيع أحد انكارها وخاصة اذا ‏نظرنا اليها من خلال منظار شمولي لأوجه الصراع مع الحركة الصهيونية على ‏أرض فلسطين.‏


فقد نجحت هزيمة حزيران في إعادة توحيد الأرض الفلسطينية من خلال إزالة ‏الأسلاك الشائكة وحقول الألغام التي كانت تفصل بين فلسطين التي احتلت عام ‏‏1948 وأصبحت تدعى إسرائيل، وبين ما تبقى من فلسطين وأصبح يدعى فيما بعد ‏بالضفة الغربية.‏


‏ والذين عايشوا تلك الحقبة من عام 1948 حتى عام 1967 يذكرون كيف أن نهاية ‏العالم كانت تقف على طول الخط الأخضر - خطوط الهدنة لعام 1948- مع ‏إسرائيل وكيف أننا في الضفة الغربية لم نعد نعرف شيئا ً عمن بقوا في الداخل وأننا ‏فقدنا أي اتصال أو تواصل معهم سوى في الأعياد المسيحية حين كان بعض الأخوة ‏المسيحيين يفدون عبر بوابة مندلبوم للزيارة الدينية المحدودة جدا ً، وكيف أصبحنا ‏نذوب تدريجيا في بوتقة الوحدة بين الضفتين الغربية والشرقية فأصبحنا مواطنين ‏أردنيين، الى أن جاءت نكسة حزيران لتزيل الحدود بيننا وبين أشقائنا داخل ‏فلسطين وتضعنا وجها لوجه أمام حقيقة كدنا ننساها أو ربما أريد لنا أن ننساها ‏وهي أن الشعب الفلسطيني ما زال حقيقة قائمة ينهض كطير الفنيق من تحت الرماد ‏، وما تلا ذلك من فك الارتباط مع الأردن من جانبه عام 1988 بعد أن أدرك هذه ‏الحقيقة.‏


توحيد فلسطين شعباً وجغرافياً


فالذي حدث نتيجة لاحتلال عام 1967 كان بمثابة إعادة توحيد لأرض فلسطين ‏وإعادة توحيد لشعب فلسطين على جانبي خطوط الهدنة لعام 1948 ، وإعادة بعث ‏للشعور الوطني القومي الفلسطيني.‏


لم تكن هذه الحقيقة واضحة في السنوات الأولى للاحتلال حيث كان الكثيرون ‏يتوقعون انسحاباً إسرائيليا من الضفة كما انسحبت إسرائيل رغما ً عنها من قطاع ‏غزة بعد احتلاله عام 1956. ولكن كلما طال أمد الاحتلال كلما تعمق الشعور ‏الوطني الفلسطيني بين أبناء الأجيال التي توالدت بعد النكسة الى أن وصل ما وصل ‏اليه اليوم، وازدادت معه قوة الوشائج والروابط بين أبناء الشعب الواحد في الضفة ‏والداخل. ‏


أضف الى ذلك أن هناك علاقة جدلية فحواها هي أنه كلما ارتفع منسوب العنصرية ‏والتطرف اليهودي والتمييز ضد العرب كلما تعززت الروابط بين أبناء الشعب ‏الواحد على جانبي الخط الأخضر، وها نحن اليوم نقف شعباً واحداً ضد ‏العنصرية والتطرف. فقانون يهودية الدولة الذي ينكر على أبناء شعبنا في الداخل ‏حقهم في الدولة التي تحكمهم والتي قامت على حساب مقدراتهم وممتلكاتهم ‏ومعاناتهم هو في نفس الوقت وبالترابط مع استمرار الاحتلال والاستيطان في ‏الأراض المحتلة عام 1967 ، المؤشر الذي يؤكد أن الشعب الفلسطيني مستهدف ‏برمته على طول وعرض أرض فلسطين التاريخية وأن الوسيلة الأقوى أمامه ‏للدفاع عن نفسه هي التلاحم والتكاتف والوقوف في خندق واحد ضد العنصرية ‏والاحتلال والقهر. ‏


وفي هذا الصدد فإنني أتفق مع من يقول من الإسرائيليين بأن أرض فلسطين التي ‏يسمونها أرض إسرائيل لا تتسع لدولتين بل يجب أن تكون دولة واحدة. وأنا أدرك ‏بأن القيادة الفلسطينية التي تبنت حل الدولتين منذ اجتماع المجلس الوطني بالجزائر ‏في تشرين ثاني 1988 لم تفعل ذلك لأنه كان خيارها الأول وإنما فعلته استجابة ‏للرغبة الدولية بعد أن انخدعت بفكرة أن قبول حل الدولتين سيلقى دعماً وقبولاً ‏دولياً، وقبولاً من شريحة واسعة من الشعب الإسرائيلي.‏


واليوم وبعد قرابة ثلاثة عقود من بدء عملية أوسلو وتصحرها في مكانها واستحالة ‏تحقيق حل الدولتين نتيجة لاستمرار الأنشطة الاستيطانية في الضفة والقدس الى حد ‏بلغ فيه عدد المستوطنين في الأراضي المحتلة أكثر من سبعمائة ألف مستوطن منهم ‏نصف مليون مستوطن بالضفة يشكلون قوة انتخابية مؤثرة في الحياة السياسية ‏الإسرائيلية ومنهم وزراء ونواب كنيست وقضاة في المحكمة العليا وقادة في الجيش ‏والأجهزة الأمنية، فإن علينا أن نشطب من قاموسنا السياسي أي حديث عن وهم ‏حل الدولتين، وأن نعيد النظر في برنامجنا السياسي وطريقة تعاطينا مع الاحتلال ‏الإسرائيلي.‏


واذا كان حل الدولتين لم يعد ممكنا من ناحية عملية فإن حل الدولة الواحدة ذات ‏الحقوق المتساوية بين مواطنيها لا يبدو هو الآخر ممكنا ً أو سهل المنال في الوقت ‏الراهن، لأن اليهود يريدون دولة يهودية ويرفضون من حيث المبدأ مشاركة غير ‏اليهود في نفس الدولة.‏


وبالرغم من اضمحلال فرصة حل الدولتين وإصرار اليهود على رفض الدولة ‏الديمقراطية الواحدة إلا أن الواقع المتبلور على الأرض سيظل يدفع باتجاه ‏الاستقطاب بين العرب واليهود من جهة وبين المشروع الاستيطاني العنصري ‏والمشروع الإنساني الديمقراطي من الجهة الثانية.‏


المشروع الصهيوني ينقلب على نفسه


ولا شك بأن نظرة الى ما يجري على الساحة الإسرائيلية تكشف لنا بوضوح كيف ‏أن المشروع الاستعماري الاستيطاني اليهودي الذي بدأ على هذه الأرض مستلهما ً ‏فكره من عهود الاستعمار في القرنين الثامن والتاسع عشر وحاول استغلال الدين ‏اليهودي كغطاء لتبرير وجهته الاستعمارية، قد أصبح اليوم ينقلب على نفسه ‏وأصبح يتحول تدريجيا ً الى حركة مشيخية دينية متطرفة تشكل خطراً ليس علينا ‏فقط سواء في الداخل او في الأراضي المحتلة عام 1967 وإنما أيضا على اليهود ‏غير المتدينين الذين وجدوا في الحركة الصهيونية فرصة للمغامرة الاستعمارية ‏‏"الكولونيالية" وليس بهدف إقامة دولة دينية.‏


إن ما نشهده اليوم من ارتفاع نسبة المؤيدين للصهيونية المتدينة واتساع قاعدتها ‏وتحولها بقيادة، تلميذي مئير كهانا، بن غفير وسموترتش الى الحزب الثاني في ‏إسرائيل بعد الليكود، لهو خطر لا بد من التنبه إليه والاستعداد لمواجهته والادراك ‏في نفس الوقت بأن إسرائيل تحولت من دولة تشكل ملجأ لليهود من الملاحقة، الى ‏دولة مشيخية متطرفة ستقوم هي نفسها بملاحقة واضطهاد اليهود غير المتدينين ‏والتضييق عليهم وعلى غير اليهود في نفس الوقت. وهذا التحول يجب أن يكون ‏مؤشراً الى إمكانية خوض صراع مشترك بين القوى اليهودية الديمقراطية والعرب ‏من جهة وبين اليهود المشيخيين العنصرين من جهة أخرى، وسيكون التحالف في ‏هذا الصراع هو المدخل لإقامة الدولة الديمقراطية الواحدة بعد دحر العنصريين ‏والمتطرفين المشيخيين الذين يريدون إقامة دولة "هلخه" يهودية. ‏


الطريق طويل ولكن الأيام القادمة ستثبت أن لا مكان للفاشية والعنصرية وأنه لا ‏يصح إلا الصحيح، وأن فلسطين التاريخية لا تتسع إلا لدولة واحدة، دولة ‏ديمقراطية لكل مواطنيها.‏