يحظى مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني بأهمية خاصة، لأن الحزب ما زال يلعب الدور القيادي ـ التوجيهي ـ الكبير في مسار تطوّر الدولة الصينية، وما زالت السياسات الرئيسة ترُسم من قِبَل مؤتمر الحزب، وما زالت سلطة المؤتمر هي السلطة الأعلى في الدولة أثناء انعقاد المؤتمر، وما زالت الهيئات الأساسية في الدولة تنبثق عن قرارات اللجنة المركزية، والتي بدورها تحدّد عضوية المكتب السياسي، والأمين العام للحزب، والذي يتولّى منصب رئيس الدولة.
أقصد أن الحزب الشيوعي الصيني ما زال هو القائد الفعلي للدولة، ولم يتمّ المسّ بمكانة الحزب، ودوره القيادي بالرغم من كل التحوّلات التي طرأت على جهاز الدولة، وعلى التوجّهات (الرأسمالية) الخاصة بالاقتصاد الصيني العملاق، وبالرغم من التحوّلات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها الصين في العقدين الأخيرين على وجه الخصوص والتحديد.
هذا كلّه من جهة.
أما من جهة أخرى فإنّ هذه الأهمية لدور الحزب وقراراته وتوجّهاته في الظروف التي يمرّ بها العالم، جرّاء الحرب الروسية ــ الغربية في أوكرانيا وعليها تحظى بأهمية مضاعفة، وذلك نظراً لأن الصراع القائم سيُفضي لا محالة إلى تغيرات كبيرة في موازين القوى الدولية، ويغيّر الكثير من معادلات الصراع، وسيُحدث هذا الصراع بكل تأكيد خلخلات واختلالات في النظام العالمي، وسيؤدي إلى دخول العالم في بداية تفاهمات بين أقطاب العالم التي ستخلي المكان لأقطابٍ جديدة، وقوىً جديدة، والكثير الكثير من الدول الصاعدة والقادمة إلى حلبة الصراع الدولية.
وأمّا من الزاوية الصينية الخاصة، فإن عقد المؤتمر في هذه المرحلة والقرارات التي صدرت عنه، والتي ستعمل القيادة الجديدة على تنفيذها فتتعلق بمستقبل العلاقة بين الدولة الصينية الأمّ، وبين جزيرة تايوان التي تحاول «استغلال» اللحظة السياسية للانفصال عن الصين، في ظلّ الانحياز الأميركي لهذا التوجّه، وتشجيع الجزيرة على إعلان «التمرُّد» على الصين في محاولة من الولايات المتحدة لتوريط هذه الجزيرة في حربٍ مع الصين، تماماً كما عملت وورّطت أوكرانيا في حربٍ مع روسيا.
عُقد هذا المؤتمر إذاً في ظل هذه الظروف المحتدمة عالمياً، والحسّاسة إلى أبعد الحدود صينياً، والخطرة من حيث إمكانية اندلاع حربٍ عالمية بسبب إصرار الغرب بقيادة أميركا على عدم التسليم بوقائع العالم الجديد ونظامه الدولي الجديد.
أي نظرة متمحّصة في التوجهات الجديدة التي عبّر عنها المؤتمر ستلحظ بكل وضوح أن الصين تخلّت عن لغتها المعهودة الناعمة، وأسقطت من صيغة القرارات والتوجّهات المفردات الهادئة، والمنتقاة بعناية، والدبلوماسية الرصينة والمتحفّظة.
سبق عقد المؤتمر، وأثناء التحضيرات له «التأكّد» من سلامة الجبهة الداخلية، لأن الولايات المتحدة والغرب تراهن على زعزعتها، وفهمت القيادة الصينية أن مراهنة الغرب هنا تكاد تكون هي المراهنة الأولى، تماماً كما كانت هذه المراهنة هي المراهنة الأولى بالنسبة لروسيا، والتي ثبت فشلها المُدوّي.
راهنت الولايات المتحدة، وما زالت تراهن على استنزاف روسيا للاستفراد بالصين، وكانت الخطة الغربية، وما زالت العمل على إنهاك روسيا وفرض شروط الغرب عليها لكي تصبح الصين أمام غربٍ «منتصر»، وقادر على فرض شروطه الاقتصادية على الصين، وكذلك فرض شروطه العسكرية، أيضاً، بعد تحويل تايوان إلى قاعدةٍ عسكرية تهدد الأمن القومي الصيني، تماماً كما كانت تعمل على تحويل أوكرانيا إلى مثل هذه القاعدة.
القيادة الصينية ــ كما يتّضح من القرارات والتوجّهات التي صدرت عن المؤتمر استوعبت، وهضمت، ودرست كل هذه الاعتبارات، وانطلقت ــ على ما يبدو ــ من نتائجها في رسم التوجّهات القادمة.
ففي المجال العسكري أقرّ المؤتمر تحويل الصين إلى «قوّة لديها قوّة النضال، وقوّة الانتصار». وهذا التعبير هو تحضير الدولة والجيش والحزب للمواجهة القادمة بروح التصدي الحازم لأيّ محاولات للمسّ بالسيادة الصينية وأمنها القومي.
وفي هذا السياق عزّز الرئيس الصيني من سلطاته داخل الحزب والدولة بإبعاد رئيس الوزراء، وبعض القيادات المتردّدة، ويُجمع معظم المراقبين والمتابعين للشؤون الصينية أن الرئيس شي جينبينغ قد أعاد صورة الزعيم الخاص في الواقع الصيني، كما كان عليه الحال في زمن الرئيس ماو تسي تونغ.
وأكد المؤتمر على التصدّي بحزمٍ (للانفصاليين في تايوان)، وأوصى بتحويل مقولة «الصين الواحدة» إلى مادة دستورية، وهو ما يجعل من المستحيل على أيّ طرفٍ داخلي أو خارجي بما في ذلك سلطات تايوان نفسها «التمرّد» على الدستور الصيني، وما يستدعيه ذلك من ردعٍ ومواجهة بكل قوّة وحزم.
وأقرّ المؤتمر «التخلُّص» من كلّ المخاطر الخفيّة في الحزب والدولة والجيش، وهو ما فُهِمَ على أنه بمثابة تحضير الصين للمواجهة المحتملة مع الغرب، وهو ما جعل الرئيس الصيني يؤكّد على رفع كفاءة وتسليح الجيش بصورةٍ كبيرة.
ولم يتردّد الرئيس بينغ في إفهام العالم ــ والكلام مُوجّه للولايات المتحدة ــ بأن الصين لن تتردّد في استخدام «القوة» لاسترجاع سيادتها الكاملة على تايوان.
بات واضحاً بعد قرارات المؤتمر العشرين للحزب أن استرجاع الجزيرة لم يعد يخضع للجدول الزمني السابق، ولم يعد مستبعداً أبداً أن نصحو صبيحة ذات يومٍ قريب على خبر الاجتياح الصيني للجزيرة، أو استرجاعها بالأَحرى.
وركّز المؤتمر على رفع وزيادة القدرات التكنولوجية للصين في كل المجالات، وهو ما فُهِمَ على أنه بمثابة قطع الطريق على محاولات الولايات المتحدة الأميركية فرض حصار «تكنولوجي» على الصين، ومنعها من كسر الحلقة التكنولوجية في صراعها الخفيّ مع الولايات المتحدة، طالما أن كسر الحلقتين العسكرية والاقتصادية أصبح خلفنا، ولم يعد أمام الولايات المتحدة سوى هذه الحلقة في آخر مراهناتها اليائسة.
وبكلّ هذه المقاييس الآنفة فإنّ مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني العشرين هو محطّة نوعية جديدة في مسار تطور الصين، وفي تبوُّؤ الصين لمكانتها الجديدة ليس اقتصادياً فقط، وإنّما سياسياً، أيضاً، بعد أن حاولت الولايات المتحدة وضعَ حدٍّ لهذه المكانة من خلال كسر الحلقة الروسية أولاً، والدخول بعد «كسر» هذه الحلقة إلى مرحلة «الإذعان» الصيني للإرادة الغربية.
استطاع رجل الدولة القويّ، الهادئ أن يحسم الأمور لصالح رؤيته وتوجُّهاته، وها هو الرئيس بينغ يُعلن عَبر منصّة المؤتمر أن إرادة الصين هي إرادة القوة والانتصار، وهي عزيمة تضع الرئيس بايدن في زاوية ضيّقة، وتحشره في ركن لن يتمكن من الخروج منه إلّا بهزيمةٍ كبيرة، بعد أن أربكه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأربك كلّ حساباته، وحسابات الغرب كلّه.
الحزب الشيوعي الصيني قطع الشك باليقين.
الغرب غرب والشرق شرق، تماماً كما أكّد الرئيس الروسي.
الهيمنة الغربية، القائمة على القوّة والبلطجة ولّى زمانها، والشرق في طريقه إلى الرُسوّ التاريخي الجديد كوجهة جديدة تعطي للبشرية كلها حرية الاختيار لطريق تطورها بما تمليه عليها مصالحها الوطنية والقومية، وواجبها الإنساني، وبما تتمكن به من حرية اختيار طريقة عيشها وفق ثقافتها الخاصة والوطنية بتفاعلٍ بنّاء مع ثقافات الشعوب وقيمها المشتركة.
ويَنفرط عقد الغرب التسلُّطي على رقاب الشعوب ومقدّراتها، ليضع الشرق الجديد شروطه الجديدة لممكنات التعايش القائمة على تبادلية المنافع، وعلى تبادلية القيم دون سطوةٍ أو هيمنة، ويلوح في الأفق عصر نهاية البلطجة الأميركية، وعصر دخول الغرب الأوروبي في أزماتٍ طاحنة، وهو عصر الترنُّح لكل أتباع الولايات المتحدة وأذنابها، وهو العصر الذي يضع دولة الاحتلال في عصر الجُنون والشعبطة، واللعبطة، والتي عادةً ما تسبق الارتطام.