يبرر ما يجري في بلادنا، وفي الإقليم والعالم، ولو بشكل استثنائي ومؤقت، تسليط ضوء على الجاري من الأحداث، وبعضها من عيار ثقيل، على حساب معالجات لأحداث وقعت، فعلاً، قبل عقود، ولكنها تفسّر الكثير مما آلت إليه الأمور، والكثير ما يتجلى من تحوّلات ووقائع هذه الأيام.
ولنبدأ بما يجري من أحداث في بلادنا، وفي الضفة الغربية على نحو خاص، بطريقة يمكن الكلام عنها كعتبة محتملة لانتفاضة جديدة. لذا، يجدر إغناء كل نقاش مُحتمل للشأن العام بنقاط لا غنى عنها. ولا معنى لعمل كهذا دون تشخيص اللحظة الراهنة، مع تركيز خاص على فعالياتها وفاعليها. أعني ظهور خلايا نشطة لجيل جديد.
ويعنيني، في هذا الشأن، الكلام عن تفصيل واحد، فقط، أي حقيقة أن الفاعلين، وأغلبهم في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم، إما وُلدوا بعد أوسلو، أو كانوا أطفالاً في ذلك الوقت. وفي هذا ما يبرر الكلام عن جيل جديد صار في الميدان الآن. فهم الخصائص السوسيولوجية، والسياسية، والأيديولوجية للجيل الجديد شرط أول لنجاح التشخيص.
الغالب من سمات هذا الجيل، الذي نشأ في ظل انهيار ما عَلّق جيل سابق على أوسلو من آمال، وميلودراما "المصالحة" لرأب صدع "الانقسام" (استيلاء حماس على غزة) وتآكل مركزية وأهمية المسألة الفلسطينية في الإقليم والعالم، هو ميول أقل أيديولوجية من أجيال سبقت، وتحفّظات إزاء السلطة، وشكوك إزاء حماس، وقناعة باستحالة الوصول إلى حلول تفاوضية مع الإسرائيليين، ونزعة وطنية تقليدية تنتمي إلى تقاليد وميراث الوطنية الفلسطينية.
في مجرّد وجود هذا الجيل، بصرف النظر عن موقفنا منه، ما يبدد "سلامين" وهميين هما "السلام الاقتصادي" و"سلام إبراهيم". ولا ضرورة للكلام، الآن، عن الاثنين، بل التذكير بحقائق من نوع: أن الاحتلال هو الاحتلال، بصرف النظر عن أقنعته وتسمياته في الماضي والحاضر والمستقبل، وأن في وجوده ما يُحرّض شعباً مُحتلاً على المقاومة.
وهذا، بالذات، ما يمس عصباً نافراً في أرواح وأجساد الفلسطينيين. فلم يسبق أن وجدوا أنفسهم في حالة تراجع تنتابهم فيها هواجس وجودية مُلحّة ومؤلمة، كما حدث في السنوات الأخيرة ويحدث الآن. ولم يسبق أن أصابتهم طعنات غادرة في الظهر، وأشاح العالم بوجهه عنهم، كما حدث في السنوات الأخيرة ويحدث الآن.
لذا، تُعيد أدنى حالات التحدي، حتى وإن بدت في أكثر تجلياتها وهناً، بعض ما تحتاج الروح الجمعية من طمأنينة. وإذا شئنا الكلام بطريقة مجازية، والاستعانة بلغة الشعر: يحتاج الناس ما يستدعي البقاء بكرامة من مفردات وجماليات الصلب والصليب. وفي هذا ما يفسّر نشوة تنتابهم، وتُشعل وسائل التواصل الاجتماعي، من حين إلى آخر، وبطريقة لا تخلو، في حالات كثيرة، من المبالغة.
ومع هذا كله في الذهن، فإن الإفراط في مديح ظاهرة تُوّلد كل هذا القدر من الدلالات، قد يلحق بها من الضرر ما يوازي ما ينجم عن تجاهلها من أضرار. من المعلوم والمفهوم أن تلاحق الأجيال يضخ دماءً جديدة في عروق الشعوب والقضايا. ولكن النجاح مشروط بالتراكم: خبرات وتجارب وذاكرة الماضي والحاضر في كل محاولة لتشخيص الواقع، على أمل تفادي أخطاء سابقة، وشق طرق آمنة.
في رصيدنا حرب الانتفاضتين الأولى والثانية. وكلتاهما وسيلة إيضاح ناجحة. في الحالتين، نُشخّص ثلاث سمات شكّلت فرادى، ومجتمعة، عقب أخيل، أو نقاط ضعف مُهلكة: أولاً، غياب آليات الضبط والسيطرة، الناجم عن وجود أجندات مختلفة للفصائل، وفشلها في التنسيق. وثانيا، تحويل الصراع مع عدو في الخارج إلى مدخل للهيمنة على، واحتكار، الحقل السياسي في الداخل. وثالثاً، تجاهل العلاقة المتبادلة، بشقيها السلبي والإيجابي، بين ما يجري على الأرض، وما يجري في الإقليم والعالم.
لكل ما تقدّم تداعيات، وتفاصيل كبيرة وصغيرة على الأرض: العسكرة، ومحاولة الاستيلاء على الظاهرة الشعبية، وتشظي الفعاليات والتنافس الفصائلي على أسس فئوية ضيّقة، واللجوء إلى خيارات كارثية كالعمليات الانتحارية، والفشل في كبح الجماح للتوقف والتقييم والمراجعة، واتباع سياسات، واتخاذ قرارات، والقيام بأعمال، كانت تصب الماء في طاحونة الفريق المتشدد من الإسرائيليين، كما حدث في الانتفاضة الثانية، التي حرص الإسرائيليون من البداية على جر الفلسطينيين إلى مربع العنف.
وفي ضوء خبرات كهذه، لا ينبغي التقليل من الآثار السلبية لمحاولة استيلاء الفصائل على ظاهرة لم تتضح ملامحها بعد، ولا من الإفراط في مديحها من جانب العاملين في حقلي الثقافة والسياسة، ومؤسسات المجتمع المدني، بلا قيد ولا شرط. لن تعدم، طبعاً، من يقول لك إن هذه الجماعة، أو تلك، تنتمي إلى هذا الفصيل أو ذاك. وهذه أقوال، ودون الدخول في تفاصيل كثيرة، لا تنجو من التفكير الرغبي، ونزعة المبالغة.
من المؤكد، بطبيعة الحال، أن للفصائل نسبة تمثيل لا يمكن إنكارها لدى الجيل الجديد، ولكنها لا تمثل الأغلبية، بمعنى أن ثمة مسؤولية وطنية وأخلاقية إزاء التيار العريض، الذي سيكون وقود مجابهة محتملة، وحامل راويتها (إذا وقعت، وعندما تقع) على عاتق، وفي ضمائر، العاملين في الحقل العام، وممثلي المجتمع المدني. ينبغي أن تكون الأولوية لهؤلاء في تشخيص ونقاش قضايا الشأن العام، لا لممثلي الفصائل. ولن يتأتى أمر كهذا دون سجال عام.