العرين

تنزيل (20).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 

أتابع بقلق ظاهرة الضخ الإعلامي المكثف لمجموعة «عرين الأسود»، وبالطبع القلق ليس من تنامي مجموعة العرين وتقويتها وامتدادها؛ بل من طريقة التعاطي الإعلامي والشعبي معها.. شعبياً الأمر مفهوم ومبرَّر ومتوقع، ولكن إعلامياً، الأمر يستدعي الانتباه.
التضخيم الإعلامي يأتي من مصدرين أساسيين: الإعلام الإسرائيلي، والإعلام المحسوب على «حماس».. الإعلام الإسرائيلي إعلام موجّه ومدروس بعناية، وكل الحديث عن الصحافة الإسرائيلية «الحرة» و»الجريئة».. ينتهي عند الموضوع الفلسطيني، حيث يبدأ دور القوى الخلفية الموجِّهة، والمكونة من خبراء في الأمن والإعلام، ومن محللين إستراتيجيين، وأطباء في علم النفس.. ووظيفة هذا الجهاز الإعلامي معروفة، تصب في صلب المصلحة الصهيونية، وموظفة لخدمتها بالكامل.. لذا يتوجب التعامل معه بكل حذر وانتباه.
أما الإعلام المحسوب على «حماس»، فله وظائف أخرى، تضع المصلحة الحزبية أولاً، وهو بالمناسبة إعلام ذكي وموجه، ولديه قدرات وإمكانيات تفوق بمراحل إعلام السلطة ومنظمة التحرير، ومتوفق عليها تقنياً.
وبالعودة للسؤال: لماذا التركيز والضخ الإعلامي لمجموعة عرين الأسود؟ الإجابة ليست سهلة، أو على الأقل يصعب شرحها في مقال، ولكن يمكن ذلك من خلال رصد وتحليل نتائج هذا الضخ الإعلامي، خاصة في حديث الشارع وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
منذ الإعلان عن قيامها، وخلال فترة وجيزة، أصبحت «عرين الأسود» حديث الشارع، واكتسبت شعبية جارفة، والفضل الأول في ذلك يعود لشجاعة أبنائها، ولتضحياتهم، ولأنهم قرنوا القول بالفعل، ونفذوا عمليات فدائية جريئة، وتصدوا ببسالة لاجتياحات الجيش الإسرائيلي.. وهذا ما يفخر به كل فلسطيني.. ولكن السؤال المطروح: لماذا لم تنل المجموعات الفدائية المسلحة الأخرى سواء سابقاً، أم الآن في مواقع أخرى مثل هذا التركيز الإعلامي؟
من نتائج ذلك أن حديث الناس، والمحللين السياسيين والتقارير الإخبارية صارت كلما تناولت خبراً عن «العرين» تضيف إليها عبارات من مثل: «عرين الأسود لا تمثل أي فصيل»، «لا تتبع كتائب شهداء الأقصى».. كما لو أنها نبتت فجأة، أو انبثقت من العدم، أو نزلت من الفضاء! وهناك تركيز واضح على نفي علاقتها بحركة فتح، تمهيداً للقول بأن فتح انتهت وجاء البديل!
وهناك ادعاء (دون أدلة) بأن السلطة هددتهم، وحاولت اعتقالهم، وعرضت عليهم تسليم أسلحتهم، وتوظيفهم في الأجهزة الأمنية.. والغرض من ذلك استغلال «العرين» لتشويه السلطة، وتعميق الفجوة بينها وبين الشعب (وهي فجوة قائمة بالفعل، ولكن يجري تعميقها باستمرار، مرة على يد السلطة نفسها بسبب أخطائها وممارساتها، ومرة ثانية على يد الإعلام الموجه الذي يستغل هذه الأخطاء ويضخمها، ويسيء تفسيرها، وأحيانا أخرى يختلقها)، وتصوير الشعبية الجارفة التي يتمتع بها العرين على أنها استفتاء ضد السلطة!
والهدف السياسي هنا اعتبارها القيادة الجديدة والشرعية للشعب الفلسطيني.. وطبعا كلنا يدرك أن «عرين الأسود» لا تطمح للعب هذا الدور، ولكن الهدف الإعلامي الأول هو ما تسعى إليه تلك القوى، أي «شطب وإلغاء دور القيادة السياسية».
وهذا لا يعني الرضا عن القيادة الحالية، أو القبول بسياساتها وعدم انتقادها.. فالمسألة ليست بالأشخاص، والشعب الذي أنتج قيادات «فتح» والمنظمة وأدواتهما النضالية في مراحل سابقة، قادر على إنتاج قيادات جديدة وابتكار أدوات كفاحية أخرى تحاكي طبيعة المرحلة، والميدان هو دوما من ينتج القيادات.. ولكن التشكيك في القيادة الحالية، في هذا الظرف وبهذه الطريقة تنفيذ لأجندات سياسية وأيديولوجية ليست بريئة، لا في توقيتها، ولا في هدفها.
وقبل الانتقال للنقطة التالية، أود الإشارة إلى مسألتين، الأولى: ليس لدى «فتح» أي مشكلة في ظهور أي فصيل سياسي أو مسلح، بل إنها تدعم ذلك طالما أنه يقاوم الاحتلال، وشعار «فتح» المركزي «اللقاء على أرض المعركة».
الثانية: «عرين الأسود» ليست فصيلاً جديداً، بل هي مجموعة فدائية تضم مقاتلين من مختلف الفصائل، وتمثل تجسيدا رائعا للوحدة الوطنية في الميدان، وهم ليسوا معزولين عن الحركة الوطنية، هم ثمرة كفاح سياسي وعسكري وشعبي، هم حلقة نضالية في مسلسل النضال الوطني الطويل والممتد، سبقهم شهداء وأسرى وثوار، وسيتبعهم شهداء وأسرى ومناضلون.
الأهم من سمعة السلطة، ومن التأكيد على حضور فتح ومكانتها.. ما يمكن أن يحدث من تداعيات تصيب «عرين الأسود»، وبالتالي تصيب الجماهير الفلسطينية قاطبة.. فما يحدث الآن هو تحميل لمجموعة عرين الأسود أكثر مما تحتمل وفوق طاقتها؛ فهذه المجموعة في حقيقة الأمر عبارة عن شبان في مقتبل العمر، آمنوا بقضيتهم، وحملوا سلاحهم للدفاع عن بلدهم، ومع أنهم يتمتعون بالشجاعة، وبالحس الأمني، وقدموا أداء مميزا، لكنهم ليسوا حزباً سياسياً، ولا بديلاً عن الحركة الوطنية، لذا من الخطورة بمكان أن نرفع سقف توقعاتنا لدرجة تفوق قدراتهم، فهؤلاء مهما بلغت شجاعتهم ليس بوسعهم، وليس مطلوباً منهم تحقيق أحلامنا وأهدافنا الوطنية التي ما زلنا نناضل من أجلها منذ أزيد من قرن، وليس بوسعهم وحدهم تجاوز المأزق السياسي العميق الذي تمر فيه القضية الفلسطينية، وليس بمقدورهم حل إشكاليات النظام السياسي الفلسطيني المعقدة والمزمنة.. وإذا ما استمر تعاملنا مع «عرين الأسود» وكأنهم الخلاص الوحيد، والمنقذ الذي طال انتظاره، سيكون ذلك بمثابة عناق الدب، أي الاحتضان حتى الموت.
وبدلاً من ذلك يتوجب دعمهم وتأمين الحاضنة الشعبية لهم، وتوفير مقومات الاستمرار والانتصار.. ولكن دون نزعهم عن الحالة الوطنية العامة، أي عن السياق التاريخي والوطني والكفاحي الذي يخوضه الفلسطينيون منذ انطلاقة الثورة.  
ظهرت «عرين الأسود» بسبب انغلاق الأفق السياسي، وبسبب الغطرسة الإسرائيلية، وبسبب ترهل وتراجع فصائل العمل الوطني، وعدم قيامها بدورها النضالي كما يجب. لذا، بعض الفصائل تكثر من مدحها لـ «عرين الأسود»، بهدف استثمار نضالهم لصالحها، وللتغطية على غيابها وقصورها.
ظهرت «عرين الأسود» نتيجة الفراغ السياسي، وهو أمر لا تقبله الطبيعة، ظهرت لتسد هذا الفراغ، كما حاول الاحتلال أن يملأه من خلال الترويج للسلام الاقتصادي، وإمكانية التعايش مع الاحتلال، ومن خلال سياسة القوة المفرطة والحل العسكري.. لكن «عرين الأسود» كسبت المعركة، بسبب التفاف الشعب حولها، كما يلتف حول غيرها من الكتائب والحراكات المنتشرة على امتداد الوطن. مع التأكيد على أن البطولات الفردية مهما كانت عظيمة، ليست بديلاً عن الكفاح الجمعي للشعب الفلسطيني جيلاً بعد جيل.