بقلم / عباس الجمعة
لعل المهمة الأولى التي تواجه اليسار في المنطقة تتمثل في مراجعته لتجربته في سياق تحديد موقعه ومسار فعله إزاء التحولات الكبرى التي ولجتها المنطقة في السنوات القليلة الماضية وما زالت تعيش خضمها،وهي تحولات تتطلب استنفار ما تجمع لدى اليسار من خبرة ودراية وحكمة خلال العقود العديدة السابقة.
ان من حق وواجب اليسار والقوى الديمقراطية كقوى واحزاب الاضطلاع بهذه المراجعة واستخراج دروسها، كما تبقى الحاجة لتقصي، بشكل موضوعي، حجم تأثير اليسار (سواء الناشطين اليساريين بصفتهم الفردية أو بصفتهم الحزبية) المباشر وغير المباشر وخاصة لجهة الدور الرئيسي في الصراع العربي الصهيوني ، او لجهة ما وصلت اليه امور واوضاع المنطقة، وتقييمها بهدف استنهاض اليسار ومشروعه السياسي الاجتماعي الثقافي وإبراز استقلاله الفكري بعد أن عانى من المصادرة لفترة طويلة، وخاصة في هذه المرحلة على أن يكون البوصلة الهادية لمشروع التغيير نحو الدولة الديمقراطية المدنية والمنبه لمخاطر ما يطرح من خطط ومشاريع وخاصة بعد حرف الانتفاضات الشعبية العربية عن أهدافها الأصلية، من أجل إعادة بناء مؤسسات نظام سياسي جديد على أسس ومبادئ الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، مما يتطلب اعادة رسم دور اليسار من خلال رفض الإملاءات الخارجية واشتراطات العولمة الرأسمالية ومساندة لنضال الشعب الفلسطيني في مواجهة السياسية الاستعمارية الاستيطانية ونظام الفصل العنصري، ويدعم التطلعات التحررية في العالم.
وفي ظل الاوضاع التي تشهدها المنطقة يجب ان يكون هناك نظرة تقويمية لحركة اليسار العربي ، تفتح باب الأسئلة حول تجارب الأحزاب اليسارية العربية ، خاصة وأن كثيراً من القراءات لتجارب كثير من الأحزاب باتت تسلّم بإخفاقها عن استيعاب ووعي حركة الواقع ، وبالتالي فشلها في تغييره ، كذلك لا نستطيع التحدث عن وحدة يسار عربي دون أخذ واقع التجزئة بعين الاعتبار ، فعدم إنجاز مسألة الوحدة العربية كرّس الواقع القطري ، الذي أفرز بدوره قوى يسارية قطرية طرحت على نفسها برامج ومهمات على مستوى قطري ، أما الأحزاب اليسارية ذات التوجّهات العربية القومية فقد وجدت نفسها عاجزة عن التأثير والفعل العملي على مستوى القضايا القومية ، وانحصر جهدها في المستوى النظري ، حول إشكاليات القومية والأمة ,والعروبة, والتجزئة ,والوحدة ، وقد كُتب الكثير حول هذه القضايا من قبل مفكرين عرب يساريين ، وقوى وأحزاب ، لكن على الصعيد العملي تعمّق واقع التجزئة ، وتبخّر حلم الوحدة ، وتمزقت الهوية القومية ، ولم تنجز مهام التنمية والتحرر من التبعية للسوق الإمبريالية ، وتفاقمت المشكلات الاجتماعية التي عمّقت الفوارق الطبقية في المجتمعات العربية ، وانتشرت البطالة وتراجع مستوى التعليم والثقافة، وهذا الأمر ترجم نفسه بالإثراء السريع للطبقة السياسية التي استفادت من نفوذها في الحكم حيث انتشر الفساد ، والمحسوبيات في معظم البلدان العربية ، وهذا ما نعنيه بتكريس واقع التجزئة من الناحية العملية , لأن التطور بات يجري وفق صيرورات قطرية ضيقة ، بمعزل عن المصالح القومية العليا للأمة العربية ، مما عمّق الشرخ والحدود الفاصلة بين البلدان والشعوب العربية ، وصولاً إلى المرحلة المتردية التي تعيشها المنطقة العربية الآن ، وتفاقم الأوضاع في فلسطين ، كل ذلك يحتاج بالتأكيد إلى دراسات تحليلية معمقة في الفكر السياسي اليساري العربي وتجاربه ، للإجابة على هذه الأسئلة المتشعّبة ، إذ من الصعوبة بمكان الإحاطة بهذا الموضوع الشائك حول دور اليسار العربي من خلال مقالة كهذه ، مع ذلك سنحاول قدر الإمكان مقاربة الموضوع بتكثيف تصوّر شامل للمسألة بأبعادها الداخلية والخارجية، تفرض علينا مناقشة الرؤية ، أو الرؤى التي استند إليها اليسار العربي ، وتفحّص مشكلاتها ، ليس على المستوى النظري فحسب ، وإنما على مستوى القضايا العملية التي طرحها الواقع ذاته ، والمهمات والبرامج التي انبثقت عن هذه القضايا ، كي تفضي إلى وسائل حلّها وتجاوزها ، وأعني هنا مسائل القومية : الاستقلال , التجزئة ، التحرر ، الوحدة ، التنمية وأفق التطور الاقتصادي, والاجتماعي العربي ، والمهمات الأخرى التي يحددها الواقع العربي بتعييناته ، على اعتبار أننا لا زلنا في مرحلة التحرر الوطني خاصة في فلسطين ، حيث يفرض علينا واقع الاحتلال مهمات إضافية أساسية تتعلق بمواجهة الاحتلال ودحره ، مثل هذه المهام تتطلب أوسع مشاركة شعبية ، من قِبل جميع القوى الاجتماعية والطبقية الفاعلة ، التي عليها أن تنتظم في أطر جبهوية عريضة ، هي الصيغة الأكثر فعالية لإنجاز مهام الثورة الوطنية الديموقراطية ، التي يندرج ضمنها مواجهة الاحتلال ، والتحرر من التبعية ومحاربة التجزئة ، والوحدة, وإنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية, وكل هذا يجب أن يرتبط بفهم عميق لمسألة الديموقراطية التي تتجاوز مسألة الحريات السياسية فحسب ، مما يستدعي أوسع صيغ لوحدة اليسار والقوى الديمقراطية العربية ، والمشاركة الشعبية في القرار السياسي, والاقتصادي, والاجتماعي الفاعل ، الذي يعني ضمناً إعادة المجتمع إلى دائرة الفعل واعدة توجيه البوصلة الى الواجهة الحقيقية الصراع العربي الصهيوني .
ومن هنا اصبح مطلوب أن نميّز ما بين أجنحة قوى اليسار, وأدوارها حسب الأحداث, والمراحل التاريخية التي مرت بها ، وبين القوى اليسارية الأكثر راديكالية والتي تبنّت مواقف وسياسات أكثر استقلالية ومنها الحزب الشيوعي اللبناني، وهذا يقتضي من اليسار العربي مراجعة كاملة لكل المناهج والبرامج والمهمات المطروحة علينا, للخروج بفهم جديد يعيدنا إلى دائرة الفعل المؤثر في حركة الواقع على مستوى الاستراتيجيا والتكتيك الصحيح الملائم لظروف المرحلة الراهنة، لإعادة تحليل وتركيب كافة القضايا التي تواجه واقعنا العربي ، من أجل نهوض حركة اليسار العربي مجدداً من خلال مواجهة الأزمة المستعصية في الواقع العربي عموماً وفتح باب الحوار أيضاً بين مختلف التيارات والحركات الفاعلة على اختلاف مشاربها الفكرية والأيديولوجية ،الماركسية, والديمقراطية ، والقومية, رغم الاختلاف حول بعض القضايا ، ولكن المهم ان يكون هناك استرايجية لمواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني الرجعي, و الاستئصالي التكفيري .
هنا لا بد من التوقف امام الثورات الشعبية التي استطاعت بعضها اسقاط انظمتها في تونس ومصر ، الان ان الانقلاب التي جرى فيما بعد اتضح معالمه من خلال ما جرى حيث ارادت القوى الامبريالية والاستعمارية بالتعاون مع الاسلام السياسي بأن تحول ما يسمى الربيع العربي الى ربيع اخر بعيدا عن بوصلة الشعوب من خلال جلب القوى الارهابية التكفيرية لتقوم بتنفيذ مشاريع الامبريالية والصهيونية في المنطقة وتحديدا ضد سوريا واليمن بما تمثل من موقع ، وان ما يجري في العالم العربي هو أحد فصول ما قبل الحضارة الإنسانية، عصر الانحطاط في الفكر والمعرفة والسلوك، عصر تدمير آفاق المستقبل المشرق، عصر التخلف والتبعية ، عصر طغيان السادية الشوفينية، والتفاخر بسفك دماء الأبرياء وقتل الإنسان لأخيه الإنسان، بمفاهيم وشعارات شيطانية، تتناقض مع روح العصر وحب البحث عن الحقيقة، والتذيل والتبعية للغرب الاستعماري والولايات المتحدة الأمريكية وكيان العدو،ألم تقرع هذه الاحداث سؤال الأزمة التي تعانيها حركة التحرر الوطني العربية والاستفادة من الفرصة الموضوعية التي وفرتها صمود المقاومة للنهوض بحركة الجماهير العربية، إلى انتفاضة عربية في مواجهة الهجمة الامبريالية الاستعمارية الارهابية التي تطل معظم دول المنطقة .
وفي هذا السياق نؤكد على أن العقل الثوري الذي تحمله القوى اليسارية والديمقراطية لن يتراجع بسبب قوة وانتشار تيار الإسلام السياسي في المرحلة الراهنة بما يمثله من رؤى سياسية ومجتمعية يمينية ، أو بسبب الهيمنة الطبقية الرأسمالية الرثة والتابعة لأنظمة الاستبداد والتخلف والاستسلام ومعها العديد من القوى اليائسة أو الانتهازية ، بل سيستمر على شكل قوة موضوعية تكمن في صميم قوة وتبلور الهوية الفكرية في عمق وعي هذه الاحزاب والفصائل، وكل إمكانيات النهوض فيها في موازاة صلابة الموقف الذي تحمله من أجل التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية بعيدا عن سفينة الأصوليين المحكومة بقواعد التعصب والتخلف الاجتماعي ، وبعيدا عن سفينة ركاب السلطة المحكومة برياح التبعية مع التحالف الإمبريالي الصهيوني الرجعي. وفي ظل هذه الظروف تأتي الانتفاضة الفلسطينية التي تعيد القضية الفلسطينية الى واجهة الصراع العربي الصهيوني لتكشف عيوب النظام العربي، المعادي للديمقراطية، الغارق في أوحال التبعية والتخلف السائر بعيداً في تدمير بنية المجتمعات العربية وتحويلها إلى سوق استهلاكية لآخر مبتكرات تكنولوجيا القمع والسلاح والسلع الاستهلاكية والتي لا وظيفة لها سوى تأييد هذه الأنظمة وضمان ديمومتها.
من هنا يجب على القوى اليسارية والديمقراطية العربية اعادة بوصلة الصراع وان تتعامل مع الانتفاضة الفلسطينية بوصفها محطة نوعية جديدة في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني يمكنها أن تؤسس كمحطة نوعية جديدة في مسيرة النضال الوطني التحرري العربي،وهذه النظرة التي لم تقلل من أهمية السعي لتوظيف الانتفاضة واستثمارها سياسياً، إلا أنها كانت على الدوام تبحث عن فتح آفاق استراتيجية أمام هذه الانتفاضة تمكنها من إحداث التبدل المطلوب في بنية وطبيعة ودور حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وبما يمهد لإحداث تحويل مماثل في بنية وطبيعة ودور حركة التحرر الوطني العربية، وبما يضمن في كلا الحالتين الخروج من الأزمة التي تعانيها حركة التحرر الفلسطينية والعربية، وخاصة ان الانتفاضة شكلت مرحلة نوعية جديدة في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني بعد تراجع مكانة القضية الفلسطينية عن الساحة العربية، بسبب انشغال العرب بجملة من القضايا الجانبية التي أريد بإشعالها حرف انتباههم عن قضيتهم المركزية فلسطين .
ان ما افرزته الانتفاضة اليوم يترتب عليه مكاسب ومنجزات بدا واضحاً حول مستقبل النضال ، وهي بارقة الأمل التي تحفز نضال الشعب الفلسطيني الجبار، وبات من الحقائق الثابتة أن هذه المسيرة المخضبة بدماء الشهداء لن تتوقف حتى الظفر بالحرية والاستقلال، هذه حقائق هامة ما كان يمكن لها أن تتبلور على هذا النحو لو ظل مفتاح القرار في مشكلة الشرق الأوسط موزعاً بين العواصم العربية، ولكن مع بروز القطب الفلسطيني في المواجهة مع القطب الصهيوني بات ممكناً الحديث عن دخول الصراع في المنطقة محطة نوعية جديدة، ومما لا شك فيه أن الفضل يعود لاندلاع الانتفاضة واستمرارها وتصاعدها.
ومن هنا نرى ان الموقف العربي لم يكن بالمستوى المطلوب في وجه احتلال فاشي متغطرس مدجج بالسلاح يرتكب افظع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، لهذا المطلوب أن ينهض اليسار والقوى الديمقراطية بمختلف اتجاهاته الرئيسية بعبء الاستفادة من هذه المحطة النوعية الجديدة، وان لا يكتفي فقط بالخوض في أسئلة التكتيك والمراهنة، بل ان يقوم بالانشطة الداعمة للانتفاضة ودعم صمود الشعب الفلسطيني، وتحويل الانتفاضة إلى محطة نوعية فعليا في مسار النضال الفلسطيني والعربي.
ان إيماننا بأن منظمة التحرير الفلسطينية بمختلف اتجاهاتها الوطنية ستكون محطة نوعية في مسيرتنا الكفاحية، وهذا يستدعي من جميع الفصائل والقوى عدم ترديد عبارات الأزمة أو "المصاعب" التي نواجهها كحركة تحرر وطني، فلسطينية وعربية، حيث ان الشعب الفلسطيني لا يزال يخضع للاحتلال الإسرائيلي، ويخوض معركة التحرر الوطني، يحتم عليه الواجب الوطني والأخلاقي، أن يخوض نضالا تحرريا، وأن يعمل على التخلص من الاحتلال والاستيطان وجرائم المستوطنين، والسعي لإقامة دولته الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة دون مستوطنين ومستوطنات وعاصمتها القدس، وحق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم طبقا للقرار الأممي 194 ، وتتشابك مع نضاله السياسي جدليا معارك التحرر الاجتماعي والديمقراطي، ومع ذلك فلا زالت الشعوب العربية تعتبر القضية الفلسطينية هي القضية المركزية وشغلها الشاغل، ومن مصلحتها الوطنية والاجتماعية والاقتصادية بإنهاء الاحتلال الصهيوني عن كامل الأراضي العربية للتفرغ لواقعها وحياة شعوبها في حل كافة مشاكلها،لذلك آن الأوان للشروع عمليا في رسم مسار الخروج من هذه الأزمة، فالتغيير الثوري بالنسبة لقوى اليسار العربي هو مبرر وجودها وهو أيضاً قمة النضال السياسي الديمقراطي والكفاحي في تلاحمهما معا، إذ انه خلال مسيرة النضال، تترابط وتتوحد القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أرضية صلابة الانتماء الوطني والانحياز الطبقي الصريح والصادق للعمال والفلاحين وكل الكادحين والفقراء، كشرط أساسي لتوحد وتعاظم دور اليسار العربي في القضايا التحررية والمطلبية الديمقراطية ، الوطنية والقومية والأممية، وذلك انطلاقاً من الإدراك بأن الثورة لا تنضج بمقدماتها فحسب، بل تكتمل بتوفير العناصر الموضوعية للوضع النضالي والاستعداد للتضحية من أجل الجماهير، والثقة للأنتصار في مسيرته المظفرة.
ختاما : لا بد من القول ،ان اعادة تعزيز دور القوى اليسارية والديمقراطية والتقدمية والقومية، يشكل ارضية الارتقاء بعملهم السياسي والأيديولوجي إلى مستوى المسؤولية الذي تتطلبه المرحلة الحالية على طريق النهوض والتحرر والتقدم الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، وهي مسؤولية ستظل تشكل ضرورة موضوعية في ظل الاوضاع الراهنة .