عودة روسيا العظمى امال وطموحات

حجم الخط

بقلم:الدكتور اسعد العويوي


أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة القدس المفتوحة
عانت روسيا في بداية ظهورها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وظهور نظام عالمي أحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية من عدة مشاكل، على مختلف الأصعدة الاقتصادية والعسكرية والأمنية، بالإضافة إلى المشاكل الداخلية وضعف في سياستها الخارجية. إلا أنها لم تستسلم لتلك المشاكل والأزمات وعملت على استعادة هيبتها وقوتها عن طريق تبني استراتيجيات متعددة للحفاظ على أمنها وسيادتها. كما تمكنت خلال فترة حكم الرئيس بوتين وميدفيدف من تحسين أوضاعها الاقتصادية والسياسية وتعزيز مكانتها الدولية وتحسين أوضاعها على الصعيد العالمي.
المـذهب العسـكري الروسـي لمرحلـة ما بعـد الحـرب البـاردة فقـد أشـتمل علـى مجموعـة مـن المبــادئ الرئيســة ذات الأولوية في التفكــير العســكري الروسي ولعــل مــن أبرزها، تركيــز المــذهب العسكري الروسي على بناء قوات تكفي للتصدي للتهديدات المحتملة، وذلـك للتـأثير في مـدركات الخصـم الإسـتراتيجية (أي إن الـردع هنـا يسـتهدف عقـل الخصـم قبـل فعلـه) .
أبعاد الصعود الروسي
تحدث الآن العديد من التحولات الجذرية في المجتمع والنظام الدولي بأكمله وترجع هذه التحولات بالأساس إلى تحولات مرت فيها روسيا الامبراطورية ، فقد تم القضاء على النظام متعدد الأقطاب بسبب الثورة البلشفية خلال فترة ما بين الحربين العالميتين وبروز نظام أحادي القطبية بعد انهيار الإتحاد السوفيتي عام 1991، ولكن صعود روسيا الآن في القوة والدور الروسي يعتبر من أبرز محددات التحول في بيئة هذا النظام ، وقد كشفت التطورات التي شهدها العالم في العقد الأخير عن مجموعة من المؤشرات التي تشير إلي أن النظام الدولي يرفض هيمنة قوة واحدة عليه وبات الحديث الآن عن تحوله إلى نظام متعدد الأقطاب أو ما يطلق عليه ” نظام اللاقطبية ” ، حيث ستسيطر العديد من القوي على النظام ولن تعود لأمريكا الهيمنة على مسار النظام كما كان في السابق.

وجاءت روسيا بعد انهيارها لتستغل التصدُّع الحاصل في النظام الدولي خاصة خلال فترة العشر سنوات الأخيرة والتي بدأت مع وصول فلاديمير بوتين إلى مقعد الرئاسة في روسيا (2000_2008) . فقد صعدت القوة الروسية في المجتمع الدولي سواء على مستوى السياسة الداخلية أو الخارجية حيث نجح بوتين في القيام بإعادة هيكلة سياسية واقتصادية وقد ترسخ هذا الوضع خاصة مع وصول رئيس الحكومة الحالي ديمتري ميدفيديف الذي أصدر ما يسمي بــــ ” مبدأ ميدفيديف ” ، وهو يتكون من خمسة مبادئ تنص : إعطاء الأولوية للمبادئ الأساسية للقانون الدولي والسعي إلى بناء عالم متعدد الأقطاب، وعدم السعي إلى المواجهة مع دول أخرى، وأن تحمي مواطنيها أينما كانوا، وتطوير روابط مع الأقاليم الصديقة، فضلاً عن خطة فلاديمير بوتين ” رئيس الجمهورية الحالي ورئيس الحكومة السابق” الإستراتيجية لإخراج روسيا من تحت الركام لتشكل ثقلا إقليمياً ودولياً وهو ما يمكن تحقيقه بطبيعة الحال خلال القيام بدور مؤثر وفعال في نزع فتيل قضايا الشرق الأوسط وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي تمثل، وبحق، أهم قضايا الشرق الأوسط .
لقد ساد الاعتقاد أن روسيا لن تحتل مكانة مرموقة في العالم ما لم تنتقل بسرعة إلى النمو الاقتصادي. لدى وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة في العام 2000 وضع هدفاً له الأولوية، هو جعل روسيا شريكاً لا غنى عنه للغرب في التوازنات الدولية. انطلق بوتين في رسم سياسته الخارجية من اعتباره أن لروسيا خصوصية في كونها قوة عالمية تستند تاريخياً إلى اتساع رقعتها الجغرافية كجسر بين القارة الأوروبية وقارة آسيا. ولهذا فإن التمدد الغربي في مناطق نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق يثير حساسية مفرطة عند النخبة الروسية، ويُعتبر بمثابة تدخل خارجي. فالسيطرة على هذه المناطق تهدد هوية روسيا الأورو آسيوية، وتقلص من دورها الإقليمي والعالمي. فلو عجزت روسيا عن تأكيد دورها في مجال الاتحاد السوفييتي السابق، لعجزت أيضاً عن تأكيد نفسها كقوة عالمية عظمى.
عندما تولى بوتين السلطة في روسيا ، كانت روسيا في ذلك الوقت تعيش أزمة اقتصادية ومنتشر فيها الفساد والفوضى وعدم الاستقرار حيث شهدت فترة الرئيس يلتسن العديد من السياسات الاقتصادية المضطربة وغير المحسوبة أدت إلى تزايد وخلق العديد من المشاكل الاقتصادية في الداخل وكان منها : سياسة الخصخصة المتسرعة وغير المدروسة التي تبنتها حكومة يلتسن حيث تم نهب العديد من الثروات والأصول الاقتصادية في روسيا لصالح قلة من رجال الأعمال الجدد تحت ستار ما يسمي بالخصخصة من خلال المزادات الوهمية محددة الأسعار مسبقاً بالإضافة إلي الرشاوي والعمولات غير المشروعة، وما يزيد الأمر سوءاً هو تهاون يلتسن فيما يخص تدخل الأجانب في أهم قطاعات الاقتصاد الروسي وهو النفط والغاز الطبيعي .
البعد العسكري
دخل الجيش الروسي في مرحلة كبيرة من التراجع الحاد بعد انهيار الإتحاد السوفيتي، حيث انخفضت الروح المعنوية للجنود الروس بالإضافة إلى تفاقم مشاكل التدريب والانضباط ونقص المعدات الحديثة وما يزيد الأمر سوءاً الفساد المستشري في الجيش الروسي. والمثال الواضح على هذا التراجع في الجيش الروسي هو الهزيمة في اجتياح جورجيا 2008 فالبرغم من صغر حجم الخصم لم تستطع روسيا هزيمته وقد وصفت هذا “خدمة أبحاث الكونغرس” في آب/أغسطس 2011 بأنه “الفشل العملياتي الواسع النطاق للجيش الروسي”. وكان من نتائج ذلك هو إعلان وزير الدفاع الروسي أناتولي سيرديوكوف في تشرين الاول 2008 عن إصلاحات عسكرية كبرى واسعة النطاق، كان الهدف منها إعادة تنظيم هيكلية الجيش وتسلسله القيادي، وتقليص حجمه، وإنشاء قوة متقدمة وعصرية وذلك بحلول عام 2020.

وابتدأت روسيا بأكبر عملية بناء لجيشها، والزيادة الهائلة في الإنفاق الدفاعي التي من المقرر أن تستمر حتى 2020 ووفقاً لمجلة “الإيكونيميست”، تتمثل التغييرات الأكثر جوهرية في إطلاق برنامج لتحديث الأسلحة في عام 2010، يمتد على عشر سنوات وتبلغ كلفته 720 مليار دولار.
قامت روسيا بإعادة النظر في سياستها وعقيدتها العسكرية، وتصدرت مسألة إعادة تسليح الجيش من أول أولويات بوتين حيث يري أن روسيا لن تستطع أن ترجع كقوة دولية إلا إذا امتلكت العناصر الثلاثة: الاقتصاد المتعافي، الجيش المتماسك، السياسة الحاسمة.
البعد السياسي
تغيرت السياسة الروسية بدرجة كبيرة، حيث تطورت سواء على المستوى الداخلي أو المستوى الخارجي خلال الآونة الأخيرة، فمثلاً على المستوى الداخلي تم إطلاق الحريات السياسية والدليل على ذلك إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية بها قدر من المنافسة في ظل شعبية بوتين الكبيرة الساحقة، هذا بالإضافة إلى التطور والتقدم على المستوى الخارجي حيث سعت روسيا لاستعادة مكانتها في النظام الدولي وعودتها بقوة وضرورة احترام روسيا كقوة كبيرة لها مكانتها ودورها العالمي.
وجاء بوتين بعد نجاحه في الانتخابات بتوجهات جديدة في السياسة الخارجية تعلن أن عصر روسيا المُنهارة الضعيفة وسنوات المهانة التي مرت بها قد انتهت، وطالب بوتين الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بالتعامل مع روسيا كدولة كبرى توازيهم لها مكانتها واحترامها في النظام الدولي.
وكان من اهم محددات السياسة الروسية، الاستقلال عن النماذج الغربية في القوة والعمل على بناء القوة الروسية الذاتية حيث يتم النظر إلى هذه القوة على أنها المحدد الأساسي لوضع روسيا في السياسة الدولية.
وكان من ضمن سياسات فلاديمير بوتين في السياسة الخارجية هو تقوية دور روسيا في منطقة الشرق الأوسط لتقوم بدور فعال حيث تحتفظ روسيا بعلاقات قوية مع دول الشرق الأوسط ومن ثم تحول بوتين من سياسة الحياد السلبي إزاء قضايا المنطقة إلى سياسة المبادرات وروسيا في مبادراتها حاولت بكل الطرق أن تتجنب الصدام مع الولايات المتحدة.
لروسيا أهمية كبيرة، فهي ليست فقط قوة عالمية عظمى بسبب قدراتها العسكرية الكبيرة ولا مساحتها الشاسعة، ولا مواردها الاقتصادية، والقدرات العلمية والثقافية والتكنولوجية التي تمتلكها، ولكن تحتل هذه المكانة العظمى بسبب ما شهدته خلال العام 2000 منذ تولي الرئيس فلاديمير بوتين رئاستها حتى الآن من إستراتيجيات وخطوات متقدمة تجاه الإصلاح للعودة إلى مسرح السياسة العالمية السياسية بعد معاناتها من التفكك والانهيار لسنوات طويلة التي أضحت على حافة التجزئة والانقسام والانفصال بعدما كانت إمبراطورية كبرى أثناء الإتحاد السوفيتي. وتتضاعف أهمية روسيا بالنظر إلى ميراثها من الإتحاد السوفيتي الذي كان يعتبر قطبا عالميا في ظل الثنائية القطبية لعدة قرون، وحتى بالرغم من انتهاء صراع القطبية وظهور التعاون العالمي إلا أنه ما زالت المواقف الروسية تلعب الكثير من التأثيرات على مجلس الأمن. وفي السنوات الأخيرة تبنت روسيا العديد من المواقف في السياسة الخارجية أدت إلى إحياء الآمال والتطلعات بعودة التوازن إلى قمة العالم.
فالصعود الروسي أثبت أن الولايات ليست هي الدولة الرائدة الوحيدة في النظام الدولي سواء اقتصادياً أو عسكرياً ، إلا أن روسيا لم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا الانهيار وسعت بكل قوة إلى العودة لساحة التنافس الدولي من جديد وبدأت روسيا تفوق من كبوتها التي أصابتها منذ انهيار الإتحاد السوفيتي، مستغلة في ذلك حالة الانهيار التي يمر بها النظام والتفكك التدريجي للولايات المتحدة الأمريكية وضعف قبضتها على العالم، وصعود قوى أخرى دولية (كالصين والهند والبرازيل وغيرها ) تأخذ من نصيب ومساحة الولايات المتحدة على أرضية ذلك النظام.
واهم تجليات عودة روسيا كقوة عظمى جاءت من خلال الحرب الروسية على أوكرانيا ، 2022، وسط صراع متعدد الجبهات عبر العديد من الأقاليم، سعت فيه روسيا إلى إعلان تحدي الغرب والتصدي لاستراتيجية الناتو في شرق أوروبا، ومحاولة فرض ذلك بالقوة العسكرية، لتعزيز مكانتها في ظل إعادة تموضع استراتيجي أميركي وانسحابات عسكرية أميركية من عدة مناطق، مقابل تمدد الصين التي باتت تمثِّل مركز الاهتمام الاستراتيجي للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين أمام سعيها الحثيث خلال العقد الأخير نحو تحصين موقفها الدولي وتعزيز تحالفاتها ووضع أسس لنظام دولي جديد تكون لها فيه مساهمة أكبر في إدارة المشهد الدولي، وخاصة مع مركزية دور الصين في التحركات الروسية ضد الغرب.