إسرائيل.. عودة إلى الأصول اليهودية...!

b4074a08395cccfa2439721cb44bffc8.jpg
حجم الخط

بقلم أكرم عطا الله

 

 

هل تمكنت إسرائيل في الانتخابات الأخيرة من فض الاشتباك في هويتها الملتبسة؟ الظواهر الاجتماعية هي عبارة عن نسق متماثل لا يحتمل ذلك التناقض الصارخ وإن تحمَّلها عنوة فترة معينة، لكن لا بد لهرم بوروخوف أن يعتدل بانتصار واحدة من تناقضاتها على الأخرى، فالسياسة وأدواتها ظواهر اجتماعية بالأساس تفرزها حقائق المجتمعات.
أقيمت اسرائيل كدولة يهودية، هكذا أعلن مؤسسها في بيانه الأول حين قرأ «اليوم هنا أقيمت الدولة اليهودية « مستمداً من المخيال الديني حقيقة سياسية جسدتها قوة عسكرية وإسناد دولي لطائفة دينية تعرضت للاستهداف على يد النازي في أوروبا، بل وأن الأساس الذي قامت عليه الدولة هو أساس ديني مستنداً لذلك المخيال بالوعد بين «يهوة» الرب المحارب و»إبراهيم» ومن ثم نجله «يعقوب» لك ولنسلك أعطي هذه الأرض».
ثيودور هرتسل صاحب الفكرة متعاوناً مع روتشيلد، تاجر النبيذ الفرنسي الذي كان يحلم بالسيطرة على عنب الجليل لإنتاج أجود أنواع الخمور، كان  علمانياً وغير مؤمن ولكن فكرة الاستثمار في عصر البرجوازيات الأوروبية كانت بحاجة إلى مسوغ ديني وجدته في العهد القديم. هكذا تعاون رأس المال والدين... رأس المال العلماني القادم من ثورات أوروبا بعد الثورة الصناعية والحلم الديمقراطي والروايات العائدة للعهود الغابرة.
هذا الالتباس بين الديمقراطية والثيوقراطية حملته الدولة مبكراً وتمكنت اليهودية المؤسِسَة من تحقيق زواج قسري بين هذا التناقض، وكان ذلك محل نقاشات أكاديمية في توصيف الدولة التي أعلنت أنها دولة ديمقراطية لكنها كانت تحتل شعباً آخر وتتعامل معه بعنصرية منافية للحد الأدنى من قيم الديمقراطية، وقومية تسيطر على قومية أخرى بقوة السلاح. وكان أفضل توصيف قدمه البروفسور أسعد غانم بتوصيفها بالدولة «الاثنوقراطية» أي ديمقراطية الإثنية الواحدة ولخدمة دين واحد.
من يقرأ التوراة يمكن أن يفهم هذه الروح وتلك الثقافة، ولكن من قال إن بذرة الاختلاف مع الآخر تتوقف عند آخر معين تضعه تلك الثقافة كعدو محدد ووحيد؟ فهي سلسلة متكاملة من الكراهية، فعندما يكون الدين أو التراث وما ينتجه من ثقافة تنميط جامدة تريد البشر على نمط واحد لا بد وأن ينسحب الأمر على حلقة أضيق حين تستمر في تفريخ جزئيّاتها وعلى أبناء الديانة الواحدة. هذا رأيناه في العديد من الصراعات التي أخذت طابعاً دينياً، فهل وصلت إسرائيل لتلك النقطة؟ هل يمكن القول بأن الانتخابات الأخيرة تنهي مرحلة من الزواج القسري للديمقراطية مع الدين؟
حين يتنامى الدين في إسرائيل فإنه بالقطع يصنع أزمة أكبر في اليهودية نفسها عندما يستولي على ممكنات القوة في الدولة. وهذا ما يفسر جزئياً التباعد المستمر مع يهود الولايات المتحدة، ففي إسرائيل تتقدم يهودية أرثوذوكسية فيما يهود الولايات المتحدة ينتمون لليهودية المحافظة. تمكنت علمانية إسرائيل سابقاً من احتواء تيارات اليهودية، لكن عندما يسيطر أحد تلك التيارات ويبدأ بصناعة القوانين المتفردة هذا يعني أنه يقصي التيار الآخر. وهذا ما كان يحدث لسنوات كانت تتنامى فيها الأرثوذوكسية لدرجة صرخ أحد قادة الجالية اليهودية في أميركا في وجه مساعدة وزيرة الشتات منذ سنوات قائلاً: «ما الذي تفعلونه؟ إنكم تقصوننا».
علمانيو إسرائيل أكثر قلقاً. صحيح أن المسألة لم تولد فجأة من رحم الصندوق الأخير، فقد أخذ الحمل دورته الكاملة وكان يتراكم بهدوء معززاً بممكنات ثقافية ديمغرافية وممكنات مالية وقانونية ومناخات هيأت للولادة، ولكن الأهم كانت الجذور الأصلية التي رُبطت بها الفكرة منذ البدايات على يد علمانييها  هرتسل وبن غوريون «هي الأساس المحرك وإن كان في التأسيس على يد العلمانيين لدولة دينية ما يثير السخرية، ولكن من أجل السيطرة على المكان لا بد من نبش أي كتاب لاستيلاد سبب يبرر السيطرة، لكن في تلك اللحظة جاء تناقض الفكرة.
حاول كاهانا أن ينهي هذا التناقض الذي سار متعثراً وهو يحمل جزئيتيه لكن الظروف الدولية وقوة الدفع الذاتي للعلمانية التي تلقتها في التأسيس كانت تستمر حتى تسعينات القرن الماضي، لذا جاء الرجل مبشراً في دعوته مبكراً، وكان على التاريخ أن يساهم في مزيد من إنضاج الفكرة وتهيئة ظروف أكثر مناسبة إلى أن جاء الحفيد، وهكذا يتم الإعلان ليصبح بنيامين نتنياهو ربما اليساري العلماني الوحيد في الحكومة التي تتشكل.
التاريخ يعيد تصويب ذاته وتصحيح نفسه، والثقافات هي ابنة  مناخات وليس ابنة قرارات، وإلا لكان العالم واحدا في قيمه وحضارته وعلومه وسلوكه. لكن الأمر غير ذلك، فاليهودية التي ولدت في المنطقة لا يمكن أن تنتقل للمدنية الأوروبية بقرار تأسيسي، ولأن الفكرة ولدت في الصقيع الأوروبي الخارج لتوّه من ثورة صناعية عملاقة كانت هزاتها الارتدادية تنتج ثورات مدنية على سلطة البابا والدين، فقد تأثرت الفكرة بهذه الأجواء. ولكن لا يمكن لمن يقرأ التاريخ أن يظن أن العلمانية ومنتجها الديمقراطي هي ثقافة أصيلة في إسرائيل، كانت حالة تأثرت بلحظة التأسيس وجذور الفكرة وصقيع عواصمها، لكن التطبيق كان لا بد وأن يصطدم بحرارة منشأ الأسطورة وبالواقع ...علينا أن نراقب المسار الصاعد نحو الدولة الدينية كمركب جوهري في الجينات الوراثية والتي لا يمكن أن تخفيها الجراحة التجميلية.