لم يكن الفوز الذي حققه ايتمار بن غفير المستوطن من كريات أربع بالخليل، مفاجئا ً لأحد ممن يتابعون مجريات السياسة الإسرائيلية، فقد جاء هذا الفوز ثمرة لجهد دؤوب بذله على مدى سنين طويلة من جهة ونتيجة للتطور السياسي الاجتماعي الحاصل في المجتمع الإسرائيلي وهو التحول التدريجي المستمر نحو اليمين والعنصرية المتطرفة من جهة أخرى.
فقد برز بن غفير بصفته محاميا لكل مستوطن يقوم باعتداءات ضد الفلسطينيين في أي مكان بالأراضي المحتلة، وبالتواجد والتظاهر في كل مواقع الاحتكاك بين الفلسطينيين واليهود وآخرها بالشيخ جراح بالقدس، وفي المواظبة على زياراته الاستفزازية للمسجد الأقصى ورفع الشعارات والرموز اليهودية وممارسة الطقوس الدينية فيه، واستغل الحصانة البرلمانية بصفته عضوا للكنيست ليحمل السلاح ويشهره ويهدد باستخدامه ضد العرب، وأطلق على حركته اسم "عوتسمه يهوديت" أي "القوة اليهودية" وهو الاسم الجديد لشعار كهانا المتمثل بقبضة اليد ومعها كلمة "كاخ" أي هكذا.
وكل هذه المسلكيات هي في مجملها دغدغة للعواطف والمشاعر القومية لدى اليمين الإسرائيلي.
وفي غضون كل ذلك كان بن غفير يقدم نفسه للمجتمع اليميني الإسرائيلي على أنه هو الصيغة الجديدة المحسنة لمئير كهانا وهو الوريث الشرعي له.
بن غفير على خطى مئير كهانا
ففي لقاء صحفي أجراه معه حنوخ داوم قبل سبع سنوات قال بن غفير بأن الفرق بينه وبين كهانا " ليس في الأفكار والمبادئ وليس في المعايير وإنما في الأسلوب، فهو يتبع أسلوبا ً آخر". كما قال في خطاب ألقاه قبل خمس سنوات في حفل لإحياء ذكرى مئير كهانا بأن كهانا صدق وأن " كل كلمة وكلمة قالها كهانا هي حقيقية ودقيقة وتشير الى الواقع القائم اليوم".
ولا شك بأن الإعلام المرئي والمسموع قد أسهم اسهاما كبيرا في بناء شخصية بن غفير والترويج له حتى الاعلام الذي كان يغطي أخبار نشاطاته بقصد انتقادها لأن تلك التغطية كانت تجد صداها في نفوس الكثير من اليمينيين الذين رأوا بن غفير يعبر عما يجول في أنفسهم. وقد قال بن غفير قبل ثلاث سنوات في مقابلة مع واي- نت بأن الفرق الكبير بينه وبين كهانا هو أن "الإعلام يفتح لي الميكروفونات".
ولمعرفة معنى وصف بن غفير بالعنصرية أو الفاشية لا بد من الإشارة الى أن الكهانية التي ينتمي اليها تدعو:
1- الفصل بين اليهود والعرب على شواطئ البحر.
2- ومنع التزاوج بين اليهوديات والعرب.
3- نزع حق الترشح وحق الانتخاب من العرب.
4- تشريع قانون بجعل القدس مدينة يهودية ولا يُسمح بالعيش فيها إلا لليهود.
الموت للعرب... السلام مع العرب
وبالرغم من أن بن غفير هو النجم الذي استقطب كل الأضواء في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، إلا أن الحقيقة الأهم هي أن هذه الانتخابات عكست الصورة الحقيقية للمجتمع اليهودي المنحرف باستمرار نحو اليمين العنصري الذي يردد في كل المناسبات شعار" الموت للعرب"، واختفاء حركة ميرتس اليسارية من المشهد السياسي وعجزها عن اجتياز نسبة الحسم وهي الوحيدة التي ترفع شعار "سلام مع العرب".
أضف الى ذلك أن حزب العمل - بمسمياته المختلفة - الذي أسس دولة إسرائيل وسيطر على الحكم فيها حتى عام 1977 قد دخل في مرحلة تلاشي خلال العقدين الأخيرين الى أن كاد يختفي هو الآخر كما اختفت حركة ميرتس هذه المرة حيث اجتاز نسبة الحسم بصعوبة ولم يحصل إلا على أربعة مقاعد، بينما حصل حزب الصهيونية الدينية بقيادة بن غفير وبتساليل سموترتش على 14 مقعدا ً، وارتفع تمثيل حركة شاس الدينية السفردية الى أحد عشر مقعدا، وارتفع مجمل مقاعد الأحزاب الدينية والليكود الى 64 مقعدا ً مما سيتيح لنتنياهو تشكيل حكومة يمين متجانسة ومستقرة.
ومع أن الكثير من المراقبين والمحللين يحذرون من أن الفوز الساحق الذي حققه المتدينون واليمين القومي المتطرف يؤدي الى إقامة حكومة عنصرية فاشية إلا أن الأخطر من ذلك هو أن ما حدث في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة ليس نهاية المطاف بل البداية.
لقد كتبت مرارا ً وقلت في كثير من المناسبات أن هناك تحولات اجتماعية داخل المجتمع الإسرائيلي تدفع هذا المجتمع بشكل مستمر نحو اليمين الديني وهو ما عبر عن نفسه في الانتخابات الأخيرة من خلال الظهور القوي للصهيونية الدينية التي احتلت المرتبة الثالثة في الحجم من بين الأحزاب الإسرائيلية التي فازت في الانتخابات والأحزاب اليمينية الأخرى بقيادة الليكود.
والصهيونية الدينية لا تكتفي بالمشاركة في الحكومة وإنما تتطلع لأن تكون هي الحكومة. وهي اذ تطالب اليوم بحقائب الوزارات التي تملك القرار في كل ما يتعلق بالعرب كوزارة الأمن (الدفاع)، ووزارة الأمن الداخلي (الشرطة) ووزارة العدل، فإنها لا ترى في ذلك إلا مرحلة على الطريق نحو الاستحواذ على الحكم في قادم الأيام.
مفهوم الدولة اليهودية وتناقضه مع الديمقراطية
ولعل الاستفادة من دروس التاريخ وخاصة تاريخ الحركات الفاشية والعنصرية يفرض علينا ألا نستهين بهذا التطور داخل المجتمع الإسرائيلي، ويستدعي منا أخذ ذلك بجدية مطلقة والتفكير مسبقا بكيفية التعامل معه والترفع فوق كل الاختلافات الفردية والفصائلية.
نحن أمام مجتمع يغرق تدريجيا ً بالمشيخية الأصولية اليهودية ولا يتردد ولا يشعر بأي حرج وهو يتحدث عن ذلك بل يرى فيه أمرا لا بد منه. ولكي أضع القارئ أمام تصور واضح للمقصود بالدولة المشيخية لا بد من الاستشهاد بما كتبه المفكر والفيلسوف جرشون فييلر (1926-1994)، عن أن الدولة اليهودية تعني دحر العلمانية والليبرالية والديمقراطية. وأنها تقوم على الأسس التالية:
• تعلو قوانين التوراة على القوانين الوضعية.
• دولة إسرائيل الديمقراطية العلمانية هي جسم غير شرعي، ويجب أن تستبدل مستقبلا ً بدولة هلخه (أي دولة شريعة يهودية).
• واجب الرضوخ واحترام الحكومة مرتبط بمدى احترام ورضوخ الحكومة للتوراة.
• لا يجوز تنصيب ملك أو حكومة لا ترضى عنهم السماء.
• رأي الأكثرية لا وزن له لأن لا صلاحية لأي قانون ولأي قرار لحكومة فاسقين خاطئين تتعارض مع أحكام التوراة، ومن الواجب الديني رفض قوانينها وقراراتها، ويمنع منعا ً باتا ً قبول رأي الأكثرية الخاطئة.
• يوجد في إسرائيل رأي واحد فقط لا أكثر، وكل من يخالف ذلك الرأي الواحد وهو رأي توراة الله، حتى لو كان أولئك هم أكثرية الشعب الإسرائيلي، فإن رأيهم هو رأي شاذ ومنحرف.
• هناك حاجة لنظام يحكمه شخص واحد، وكلمة واحدة، رئيس، وليست فوض عشرات ومئات المندوبين والأحزاب.
• كل شخص لا يعمل عمل شعب الله، ولا يرضخ للتوراة، يفقد حقه ومركزه.
• يجب عزل أصحاب الفكر الزائف pseudo-intellectualism لأن عدائهم للدين يعكس باطنهم المقرف.
التأمل في هذا المفهوم للدولة الدينية اليهودية يجعلنا نلاحظ أنه لا يختلف كثيرا ً عن مفهوم الدولة لدى أية جماعة أصولية بما في ذلك المفهوم الداعشي والخميني ومفهوم بوكو-حرام وغيرهم. ولكن وفي نفس الوقت بينما يقف العالم ضد كل الحركات الأصولية وعلى رأسها الإسلامية ويصفها بالإرهاب ويشن حربا ً ضدها، نجد أن لا أحد يجرؤ على الحديث عن الأصولية اليهودية كحركة متطرفة إرهابية.
وفي رأيي أنه لا يجوز الاستهانة بالخطر الذي يُشكله اضطراد نمو تأثير اليهودية الدينية الأصولية على الحكم في إسرائيل وإمكانية أن يأتي يوم قريب تصبح فيه هي صاحبة القرار في دولة إسرائيل المشيخية.
ما الذي نتوقعه من الحكومة القادمة
وليس من المستبعد أن نتنياهو نفسه تراوده المخاوف من هذا السيناريو رغم أنه مضطر في هذه المرحلة لأن يرى فيهم حلفاء لا غنى عنهم، وربما يستغل الضغوط التي تمارس عليه من قبل من بعض حلفائه الغربيين بما في ذلك أمريكا لكي يحاول أن يمسك العصا من المنتصف بحيث يبقي اليمين الديني في ساحة حلفائه من جهة ويحاول من جهة أخرى توسيع القاعدة اليهودية غير المتطرفة لحكومته وضم أحزاب يهودية أخرى مثل جانتس أو لبيد لطمأنة منتقديه في الغرب والتهرب من ضغوطهم، ولكي لا يكون موضع ابتزاز الأصوليين المتدينين ولكي لا يكونوا الوجه الذي يمثل حكومته أمام العالم.
وفي جميع الأحوال فإن صعود الصهيونية اليهودية والى جانبها الأحزاب الدينية الأخرى مثل شاس ويهدوت هتوراة وتلاشي أو تضاؤل قوة الأحزاب العلمانية مثل ميرتس وحزب العمل يجب أن يكون ضوءا ً أحمر أمامنا وأمام العالم الذي يعنيه الاستقرار بالمنطقة، لأن ظهور وتزايد قوة هذه الفئات لا يعني سوى تأجيج نيران الصراع الديني والمواجهة بين اليهود الأصوليين المسلحين والمتمتعين بحماية الجيش والشرطة الإسرائيلية وبين المدنيين الفلسطينيين العزل من السلاح.
نحن على أبواب مرحلة هي الأخطر منذ احتلال عام 1967. مرحلة ستكون من أبرز ملامحها توسيع المستوطنات القائمة، اضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية وتحويلها الى مستوطنات، غض النظر عن قيام جماعات من المستوطنين بالاستيلاء على أراضي فلسطينية ذات ملكية خاصة وإقامة بؤر استيطانية جديدة فوقها، إعطاء رخص لإقامة مزارع ومنشآت يهودية خاصة فوق الأراضي الفلسطينية، غض النظر وربما تشجيع عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين في القدس والضفة، توسيع البنية التحتية للمستوطنات لربط المستوطنات النائية بإسرائيل على حساب الاستيلاء على المزيد من الأراضي العربية وغير ذلك من ممارسات.
وما أحوجنا لأن نعيد كل حساباتنا السياسية سواء منها الداخلية أو الإقليمية لأن الخطر الداهم القادم مع انبعاث اليهودية العنصرية المتطرفة يستدعي أن نكون على مستوى التحدي الذي يضعنا أمام: "نكون أو لا نكون هذا هو السؤال"، على رأي شكسبير.