تحتل نتائج الانتخابات الإسرائيلية، الأخيرة، مكان الصدارة في الجاري من الأحداث، لما لها من تأثير مباشر علينا، وعلى الإقليم والعالم. ومع ذلك، يصعب الإفلات من حقيقة أن ما يمكن أن يُقال عنها، اليوم، قيل من قبل، سواء تعلّق الأمر بتدمير حل الدولتين، وانخراط آخرين، بصورة أكثر علانية، في تحالف "السلام" الإبراهيمي، والصعود الظافر لليمين والفاشية في إسرائيل، أو الهجوم على إيران.
لذا، ثمة ما يبرر فتح آفاق جديدة بدلاً من إعادة تدوير نشرة الأخبار. وأوّل ما يرد إلى الذهن، في هذا الصدد، استحالة الكلام لا عن نتائج الانتخابات الأخيرة وحسب، بل وما طرأ على بنية السياسة والمجتمع الإسرائيليين في العقود القليلة الماضية أيضاً، دون التوقّف عند ظاهرة نتنياهو، الذي يستعد للعودة إلى سدة الحكم الآن.
لا فائدة، بالتأكيد، من استدعاء مرافعات حول دور الفرد في التاريخ، والحامل الموضوعي، الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، لدور كهذا. وسواء ملنا إلى هذا الجانب أو ذاك، فلن نتمكن من تشخيص الصعود الظافر لليمين والفاشية في إسرائيل دون الكلام عن نتنياهو بوصفه أبرز مهندسي هذا الصعود وصنّاعه، بالمعنى السياسي والتنظيمي والأيديولوجي.
وإذا جازت التسمية، وهي شائعة في التواريخ ذات الصلة بنشأة الدولة الإسرائيلية، بالكلام عن بن غوريون كمؤسس لإسرائيل الأولى، فثمة ما يكفي من الوقائع لتسويغ الكلام عن نتنياهو كمؤسس لإسرائيل الثانية. ولكي ننجو من سوء الفهم، فلا بد من التحذير من مخاطر استدعاء الأيديولوجيا كحجة على الواقع، أو تحويل الواقع إلى مُفسّر للأيديولوجيا. ولا د، بالقدر نفسه، من الحفاظ في الذهن، دائماً، على حقيقة أن الخصوصيات الشائعة والمتداولة عن اليمين واليسار في أماكن مختلفة من العالم، لا تنطبق بالضرورة على يمين الصهيونية ويسارها.
وبناء عليه، إسرائيل الثانية لا تمثل، بالضرورة، قطيعة مع إسرائيل الأولى، بل تبدو تطوّرها الطبيعي في جوانب كثيرة، والفرق بين الجانبين لا يُفسّر بمعطيات ودوغما أيديولوجية مُسبقة، بل بحال الإقليم والعالم في القرن الحالي، وما كان عليه الحال في العقود الأولى التي تلت إنشاء الدولة الإسرائيلية في قرن مضى.
وعلى قاعدة كهذه يستقيم النظر إلى إسرائيل الأولى: القادمة من أوروبا الشرقية (مجتمعاً، وسياسة، وخيالاً، وذاكرة) التي لم تكن قد امتلكت بعد ما يكفي من الثقة بقدرتها على البقاء، والمُرغمة على مراعاة حساسيات وشكليات وضوابط في الإقليم والعالم. وإسرائيل الثانية الشرق أوسطية: صاحبة الترسانة النووية، حليفة اليمين الإبراهيمي وحاميته، ومُلهمة اليمين في العالم.
اقترن نشوء الأولى بالتطهير العرقي، ولكنها كانت، وما زالت، قادرة على الإنكار، وكان في وسعها، وما زال، التباهي بتمكين مَنْ تبقى من الفلسطينيين، في بلادهم، مِن المشاركة في الحياة السياسية والانتخابات، وكان في وسعها الكلام حتى عن احتلال 1967 بوصفه أكثر الاحتلالات "ليبرالية" في التاريخ، ومع هذا وذاك، وعلاوة عليه، لم تكل أو تمل، من التباهي بصفة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
استفادت الأولى من ديمقراطية وديمقراطيات ما بعد الحرب العالمية الثانية، في أوروبا الغربية، وحاولت تقليدها، ونيل رضاها، والتماهي معها. ولكن إسرائيل الثانية غير معنية بهذا كله، وقد صار من ميراث الماضي الآن، فالموجة الصاعدة في الإقليم والعالم يمينية بامتياز. وبناء عليه، يقول قائل: ألا يدل هذا على قدرة فائقة على التأقلم مع، والاستفادة مِن، كل ما يحقق المصلحة الذاتية؟
والواقع أن الجواب بنعم، دون تحفّظات، هو أكثر سلع الليبرالية الجديدة رواجاً، وقابلية للتسويق، بالمعنى الأيديولوجي. ومع ذلك، ثمة ما يبرر التعامل مع جواب كهذا بقدر كبير من التحفّظ، خاصة إذا كنت إسرائيلياً، فرأس المال الرمزي لا يقل أهمية عمّا لديك من أسباب القوة المادية، والدولة الإسرائيلية مدينة بوجودها، إلى حد بعيد، لما تجلى من مشاعر التكفير عن الذنب، بعد الهولوكوست، في قيم صارت مركزية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. أما إذا كنت يهودياً، فلا تلومن إلا نفسك إذا تعاميت عمّا في موجة اليمين الصاعدة، في كل مكان، من عداء لليهود، حتى وإن تظاهرتْ بعناقهم، في الوقت الحالي، على الأقل.
وإذا شئنا "فرط" هذا الكلام، وصياغته في عناصر أولية فلنقل: لم تكن إسرائيل الأولى على الجانب الصحيح للمتراس (بلغة والتر بنيامين)، ولكنها تظاهرت بذلك، وكان في وسعها الاستفادة من ذخيرته الرمزية والأخلاقية. أما إسرائيل الثانية فتنزع القناع عن وجه الأولى. وهذا يعني نفاد رصيدها الرمزي والأخلاقي في الغرب على نحو خاص. ففي كل محاولة لدحر موجة اليمين الصاعدة في أوروبا الغربية، والولايات المتحدة (لا يتسع المجال للكلام عن روسيا والصين والهند) سيجد ما لا يحصى من الناس العاديين أنفسهم، بمن فيهم اليهود، في مجابهة مع إسرائيل الثانية، أيضاً.
قالت إسرائيل الأولى، دائماً، إن العالم العربي من أكثر مناطق العالم عداء للسامية، وإن "العرب" يكرهونها لأنها ديمقراطية، كما يجنّد الطغاة العرب شعوبهم ضدها لحرف أنظار الناس عن قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولا قيمة، الآن، لتأييد هذا الكلام أو دحضه، بل ملاحظة أن إسرائيل الثانية تقود تحالف الإبراهيميين لإجهاض قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي، والشرق الأوسط، وأن يمين العالم العربي، المعادي للديمقراطية وحقوق الإنسان، يمثل أهم شركائها الإقليميين.
نتكلّم في معالجة لاحقة عن صعود دولة المستوطنين في إسرائيل الثانية.