تنطلق فكرة المقالة من فرضيتين، الأولى: أن الإستراتيجية الأميركية ليست معطى مطلقاً وثابتاً، بل هي مرنة وقابلة للتغيير، وفقاً للمستجدات وتغير الظروف والمعطيات. والثانية: وجود فروقات جوهرية بين الحزبين الحاكمين للبيت الأبيض (الجمهوري والديمقراطي) سواء بشأن السياسات الداخلية، أم الخارجية، بما ذلك ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
بشكل عام، وفيما يتعلق بإستراتيجية الولايات المتحدة تجاه القضايا الخارجية يمكن القول: إنها ومنذ الحرب العالمية الأولى قامت على مبدأين، الأول: ترك الأطراف المتصارعة (بما في ذلك حلفاؤها) يخوضون صراعاتهم فيما بينهم (بتدخل خفي من بعيد) حتى يصلوا لمرحلة الرغبة بالخروج من هذا الصراع، والقبول بما تكون أميركا قد أعدته لهم من حلول وتسويات تخدم مصالحها أولاً. أو توظيف حلفائها لخوض حروبها بالوكالة، كما حدث في الحرب الباردة، وفي حرب أوكرانيا مؤخراً.
والثاني: إستراتيجية الغزو المباشر، من أجل تأمين وحماية مصالحها، كما حدث في فيتنام وأفغانستان ثم العراق. أي بالاعتماد على قواعدها العسكرية بشكل مباشر، وبأدوار قد تتجاوز أشكال التعاون التقليدية مع حليفتها الإستراتيجية «إسرائيل».
بالنسبة للقضية الفلسطينية، فقد تغيرت الإستراتيجية الأميركية مراراً وتكراراً، أثناء الحرب الباردة، وبعدها، مع الحفاظ على جوهر الموقف، الذي ظل محكوماً إلى محددات عامة، تنطلق من ثلاثة محاور أساسية، وهي: الالتزام الأميركي بأمن إسرائيل وضمان تفوقها، واعتبار إسرائيل التجسيد الوحيد للديمقراطية في الشرق الأوسط، وتأثيرات اللوبي اليهودي في أميركا والمسيحيين الصهيونيين.
كانت الولايات المتحدة أول دولة تعترف بإسرائيل في 14 أيار 1948. ومنذ ذلك الحين، أصبحت اسرائيل، ولا تزال، أهم حليف لأميركا في الشرق الأوسط. تربطهما علاقات وثيقة، بالإضافة إلى المصالح المشتركة.
وفي الحقيقة، بدأ التحالف الوثيق بينهما بعد مؤتمر بالتيمور الذي عُقد في نيويورك سنة 1942، حين بدلت الحركة الصهيونية تحالفها من بريطانيا إلى أميركا، وذلك على ضوء تداعيات الحرب العالمية الثانية، وفي كل الأحوال، ظلت إسرائيل عماد المشروع الغربي الإمبريالي، وركيزته الأساسية.
لكن السياسة الأميركية الخارجية ظلت، ولعقود طويلة إبان الحرب الباردة تتسم بالاستقرار النسبي تجاه التفاعل مع ديناميكيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والأطروحات المختلفة تجاهها، فقد ظلت منحازة وبشكل تام لإسرائيل، ومتبنية للرواية الإسرائيلية، ومدافعة عن إسرائيل بشكل مطلق، خاصة في مجلس الأمن.
أما بالنسبة لموقفها تجاه الفلسطينيين، فقد ظلت أميركا وحتى نهاية الثمانينيات لا تعترف بوجود الشعب الفلسطيني، ولا بحقوقه الوطنية، ولا تعترف بمنظمة التحرير. وبعد ذلك، بدأت السياسة الخارجية الأميركية تتغير تدريجياً، وببطء شديد، لكنه تغير مهم، ويجب البناء عليه.
كان ريغان أول رئيس أميركي يقبل التعامل مع منظمة التحرير (على شكل مفاوضات مباشرة جرت مع السفير الأميركي في تونس 1988)، وفي عهد كلينتون أُبرم اتفاق أوسلو، وكان كلينتون أول رئيس أميركي يستقبل عرفات في البيت الأبيض، ويزور فلسطين، ويفتتح في غزة أول مطار فلسطيني، صحيح أنه رعى مفاوضات كامب ديفيد (تموز 2000)، إلا أنه حمّل الطرف الفلسطيني مسؤولية فشلها، وكان بوش الابن أول رئيس أميركي يتحدث عن دولة فلسطينية.
أما أوباما، ورغم بداياته الواعدة، إلا أنه ترك الأمر للمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين دون تدخل حقيقي منه، تاركاً الأمر لإسرائيل للاستمرار في بناء المستوطنات، دون أي ضغوطات جدية، على الرغم من تمرير إدارته قرار مجلس الأمن بإدانة الاستيطان في أواخر أيام حكمه، وقد غادر البيت الأبيض دون تقديم تصور مقترح لحل الصراع الفلسطيني وإجبار الطرفين على القبول به، واكتفى بإدارة الصراع بدلاً من العمل على حله.
في مرحلتَي بوش وأوباما (2000 - 2016) بدأت الإستراتيجية الأميركية تتفهم قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، ويُعد هذا تطوراً بالغ الأهمية في الرؤية الأميركية تجاه قضية فلسطين، بعد أن ظلت أميركا ولفترة طويلة تتجاهل الحديث عن حقوق الشعب الفلسطيني، وترفض حتى الاعتراف به كشعب له وجود، وترفض لقاء أيٍ من قياداته، وهو تغير مهم من ناحيتين: الأولى: موقف الولايات المتحدة من الاعتراف بالشعب الفلسطيني، وقد بدأ هذا التغير تحديداً بعد أن اضطرت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تعقد دورة خاصة لها في جنيف للاستماع إلى ياسر عرفات، بعد أن رفضت أميركا منحه تأشيرة دخول لأراضيها في كانون الأول 1988، فوجدت نفسها في موقف متناقض مع الأسرة الدولية برمتها. وبعد أن أعلنت القيادة الفلسطينية بوضوح موقفها الإيجابي من قرار 242 شرعت أميركا بفتح حوار مع م.ت.ف عبر سفيرها في تونس، وقبل أن يسفر الحوار عن شيء نشبت حرب الخليج الأولى.
الناحية الثانية: موقفها من الدولة الفلسطينية الذي أعلنه بوش الابن في خطابه أمام الأمم المتحدة بعيد غارة مانهاتن (2001)، وربما على ضوئها.
وفيما يتعلق بتمثيل الفلسطينيين والتعامل مع منظمة التحرير، سمحت الإدارة الأميركية عام 1994 لمنظمة التحرير بأن تفتح مكتباً لها في واشنطن. وألغت قانوناً ينص على أن الفلسطينيين لا يستطيعون الحصول على مكاتب تمثيل، باعتبار أن واشنطن لا تعترف بدولة فلسطين.
وفي كانون الأول 2002، قرر بوش خفض تمثيل مكتب المنظمة بحجة عدم احترام السلطة الفلسطينية لتعهداتها. ولكن في عهد أوباما أعيد رفع مستوى تمثيل بعثة المنظمة إلى مستوى بروتوكولي أعلى من وضعها السابق. وسُمح برفع علم فلسطين فوق مبنى البعثة، وقد رأت القيادة الفلسطينية في ذلك خطوة إيجابية نحو اعتراف واشنطن بالدولة الفلسطينية المستقلة.
بالنسبة لقضية اللاجئين، فقد ظل الموقف الأميركي غامضاً، أو على الأقل غير متعارض مع القانون الدولي بشكل واضح، حتى عهد ترامب الذي مثَّل تغيراً جذرياً عن الموقف الأميركي التقليدي. فقد تبنت إدارته إستراتيجية تختلف عن مقاربات الإدارات السابقة، فقامت بقطع المساعدات عن السلطة وعن «الأونروا»، وأغلقت مكتب منظمة التحرير في واشنطن، ونقلت مقر السفارة الأميركية إلى القدس، وشرعنت الاستيطان ودعمت مشاريع الضم، واعترفت بضم الجولان، وتجاهلت كل القرارات الدولية، وعملت على تصفية ملف القضية، وبذلك يكون ترامب قد أنهى عملياً سياسة اتبعها أسلافه بتأجيل قضايا الحل النهائي إلى أن يتم التوصل إلى تسوية سلمية توافقية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
ــــــــــــــــــــــــــــ
* من دراسة لي، بنفس العنوان، نشرت في مجلة «سياسات»، العدد 53.