دعونا نؤكد أولا على أن ما يطلق عليه اليمين واليمين المتطرف مقابل اليسار في إسرائيل هو تمايز يجري داخل الصهيونية لا خارجها، والصهيونية ببنيتها الاستعمارية هي نقيض لوجودنا كعرب، التي لا يمكن لمواطنتنا أن تكتمل في ظلها إلا بمواجهتها. وهذا ما يجب أن يظل محسوما على الأقل لدى تيار الحركة الوطنية في الداخل.
ومع ذلك، فإن هذا الإجماع القومي الحزبي الإسرائيلي على صهيونية الدولة ويهوديتها، يجب ألا يلغي من ضرورة انتباهنا لشكل التحولات السياسية داخل الخارطة الصهيونية - الإسرائيلية أو في ظلها، ونقصد لناحية تفشي فاشية اليمين الديني فيها. فنتائج الانتخابات الأخيرة تبين لنا مدى تقبل المجتمع الإسرائيلي بشكل تدريجي للفكر "الشعبوي" والفاشي الذي يحمله كل من بن غفير وسموتريتش بحصولهما على 14 مقعدا مثلا.
ولطالما الشعبوية هي ظاهرة متصلة بالنُظم الديمقراطية دائما، وفيما إسرائيل في جوهرها صهيونية طابعها ديمقراطي، فإن شعبوية بن غفير وسموتيرش مسألة تخص الخارطة السياسية الصهيونية ذاتها، لكون الدولة ديمقراطية ليهودها أولا، فشعبوية اليمين الديني لا تعني العرب بقدر ما تعني اليهود. أما عن فاشية اليمين الديني، فهي متصلة بالمواطنين الفلسطينيين العرب في البلاد لناحية تصاعد النبرة الصهيونية الفاشية تجاههم.
ليست نتائج الانتخابات الأخيرة انتصارا لليمين، إنما هي حسم لشكل من اليمين داخل اليمين ذاته، فاليمين الذي ظل عصيا بكافة مركباته على نتنياهو طوال السنوات الأخيرة مما حال دون إمكانية هذا الأخير من تشكيل حكومة مستقرة، الأمر الذي أفضى إلى خمس انتخابات في أقل من أربع سنوات، فإنه اليوم قد بات أكثرية لصالح نتنياهو مما سيمكنه من تشكيل حكومة دون أن يضطر لتطويع اليمين كله فيها.
غير ذلك، فإن ارتفاع نسبة التصويت في المجتمع اليهودي - الإسرائيلي في الانتخابات الأخيرة على نحو غير مسبوق في العقود الأخيرة، والذي رفع من نسبة الأصوات التي تتطلبها نسبة الحسم هذه المرة، قد كشفت عن شكل صهيونية الدولة التي باتت أكثر تطابقا مع يمينها. فالنتائج بنسبة تصويت مرتفعة لم تأتِ ببن غفير وسموتريتش وتفشي فاشيتهما فقط، إنما أيضا أسقطت حزب ميرتس من خارطة التمثيل السياسي البرلماني في الكنيست، وكذلك تراجع حزب العمل الذي بالكاد استطاع اجتياز نسبة الحسم بأربعة مقاعد. وميرتس والعمل هما الحزبان اللذان يعتبران آخر معاقل "اليسار" داخل الخارطة السياسية الصهيونية في الدولة.
إن أهم ما تقوله هذه النتائج أمرين، الأول: لقد باتت لغة الصهيونية المتمثلة باليمين الفاشي أكثر وضوحا وتصالحا مع بنيتها البانية للدولة العبرية تاريخيا. والثاني: أن هذه النتائج تقول لمنصور عباس ونهج حزبه وبكل بساطة: يمكنك أن تتغير وتصبح سلطويا ذهنيا ليس أكثر، ففعليا ذلك غير ممكن في مثل هذا الشكل من يمينية السلطة التنفيذية القادمة.
ماذا عن الأحزاب العربية؟
انتهت الانتخابات، بينما التجمع الوطني الديمقراطي خارج الكنيست، وذلك لأول مرة منذ ولادة الحزب وتمثيله في الكنيست في سنة 1996. إذ حصل التجمع بقيادة سامي أبو شحادة على ما يزيد عن 139 ألف صوت، وهي نتيجة لم تتح للحزب عبور نسبة الحسم، غير أنها منعت هزيمة التجمع ومحاولة الإطاحة به وإخراجه من الساحة السياسية. إذ فاجأ التجمع الذي أُضطر لخوض الانتخابات لوحده الجميع بقدرته على تحقيق هذا الالتفاف الشعبي من حوله بفترة زمنية محدودة وموارد تنظيمية ومالية متواضعة.
غير أن نتائج الانتخابات عربيا أُغلقت على التجمع الوطني الديمقراطي وحده، بعد أن استطاعت كل من القائمة الموحدة - الحركة الإسلامية الجنوبية - بقيادة منصور عباس من الفوز بـ5 مقاعد بحصولها على ما يزيد عن 190 ألف صوت. وكذلك قائمة تحالف الجبهة/ طيبي التي حازت على ما يقارب 179 ألف صوت مما منحها 5 مقاعد أيضا، ليبقى التجمع الوطني وحده خارج دائرة التمثيل البرلماني.
ازدادت قوة القائمة الموحدة - الحركة الإسلامية الجنوبية - بمقعد إضافي على الرغم من إشكالية مشاركتها في الائتلاف الحكومي السابق ولأول مرة، وعلى الرغم من كل ممارسات حكومة بينيت - لبيد السياسية والأمنية تجاه أبناء شعبنا في الضفة وقطاع غزة والقدس. كما حافظت الجبهة نسبيا على قوتها بالتحالف مع طيبي، على الرغم من استياء مجتمعنا العربي منها ومن قياداتها التي تقف على رأس قائمتها الانتخابية.
إن تمكن القائمة الموحدة من زيادة قوة تمثيلها، وكذلك الجبهة التي زادت من قوة تمثيلها هذه المرة في الكنيست بمقعد إضافي أيضا بالتناوب عليه مع طيبي، يدل على ثبات الكُتل التصويتية لكلا القائمتين الموحدة والجبهة، لا بل فقد تعاظمت قوة الكتلة التصويتية للقائمة الموحدة هذه المرة، إذ استطاعت الموحدة الحصول تقريبا على ضعف الأصوات التي حصلت عليها في الانتخابات الـ24 في النقب على نحو غير متوقع، مما يدل على أن للموحدة وكذلك الجبهة كتلا تصويتية ثابتة متصلة بفئات لها ملامح اجتماعية متمايزة.
باتت الموحدة بمثابة الخط الممثل لشريحة العرب البدو في جنوب البلاد وشمالها (بدو النقب وبدو الشمال)، بينما ما تزال الجبهة هي الأقرب على بعض أوساط معينة في الجليل والمدن "المختلطة"، مما يفسر لنا ذلك ثبات كتل تصويتية ذات مسوح هوياتية - اجتماعية بصرف النظر عن شكل السياسي الذي تقدمه كلا القائمتين، وهذا ما لا يتوفر للتجمع الوطني الديمقراطي على الرغم من الالتفاف الجماهيري من حوله في الانتخابات الأخيرة. ومرد ذلك يعود لبنية حزب التجمع وهويته السياسية منذ تأسيسه كتيار قومي ممثل لكافة مكونات المجتمع على اختلاف تنوعها الاجتماعي والثقافي.
إن أهم ما تُحيل إليه نتائج الانتخابات الأخيرة، سواء في المجتمع اليهودي - الإسرائيلي أو مجتمعنا العربي، هو إننا نعيش في مرحلة بات يُعبر فيها عن أزمة "السياسي" بهواجس اجتماعية، إذ لم تعد مبادئية (مبدئية) الحزب كافية على تشكيل تابعيه، إنما باتت قوة الحزب تتطلب تشكيل بنية اجتماعية مشتركة لجميع الذين يمثلوه. أما عن التجمع الوطني الديمقراطي، فقد استطاع الحزب منع هزيمته، غير أن كسبه المعركة لا ينتهي عند نتائج الانتخابات الأخيرة بحصوله على 139 ألف صوت، بل كسبها مشروط بقدرته على تسييس هذه الكتلة التصويتية وتحويلها إلى اصطفاف لصالحه من خارج الكنيست. وهذا هو امتحان التجمع في المرحلة المقبلة. عن "عرب ٤٨"