من ناحية مهنية علمية موضوعية محضة، بعيدا عن السياسة وتشعباتها، وبعيدا عن المناكفات والتسريبات ومحاولات الاستفادة من كل ذلك، وبعد مرور 18 عاما على وفاة الرئيس المرحوم أبو عمار، ما زال اللغط والجدال والتخبط وعدم الوضوح هو السائد فيما يتعلق بنتائج التحقيق في الوفاة، وما زال الشعب الفلسطيني في كل مكان ينتظر نتائج مقنعة حقيقية واضحة، مبنية على ادلة علمية مخبرية وطبية، تبين نوعية السم سواء أكان عضوياً أو غير عضوي أو مشعاً، اذا ثبت أنه مات مسموماً كما هو شبه مؤكد، وتركيز المواد السامة، وبالتالي مصدر هذه المواد والطريقة التي تم إيصال هذه السموم الى جسد الراحل الرئيس عرفات.
وتأتي ذكرى وفاة أبو عمار هذا العام، في ظل اوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية غير مستقرة، وفي ظل جمود سياسي يتمثل في تواصل الانقسام الفلسطيني وتعطل وبل تناسي أي عملية سلام، وفي ظل متغيرات عربية ودولية لم يتوقعها الكثير من الناس، وفي نفس الوقت تمر هذه الذكرى في ظل استمرار عدم الوضوح، أو في ظل عدم توفر الإجابات المقنعة والواضحة والنهائية عن الوفاة بحد ذاتها، وبالاخص ان هذه الذكرى تأتي، في ظل اثارة موضوع التحقيق وملفات التحقيق ونتائجه.
حيث من المعروف انه قبل عدة سنوات، كان هناك قرار فرنسي بإغلاق ملف التحقيق في قضية ابو عمار، او بالتحديد حول احتمال وفاته مسموماً، وما زال هناك العديد من الاسئلة التي لم تجد الإجابة الواضحة او القاطعة عليها، ورغم الفحوصات المختلفة، سواء اكانت لعيّنات من رفات ابو عمار، او من متعلقاته، او من سوائل وأنسجة جسمه، كان من الممكن الحصول عليها قبل او بعد وفاته، الا انه حتى الآن لم تظهر الاجابات الواضحة والنتائج التي لا تترك شكاً، فيما يتعلق بوفاته، ولم تظهر نتائج نهائية ومتفق عليها، وترضي الجهات الرسمية والناس والاهم المواطن الفلسطيني الذي ما زال غير مقتنع، وما زالت لجنة التحقيق الفلسطينية لم تعلن انتهاء عملها، من اجل الوصول الى استخلاصات نهائية لم تعلنها حتى الآن.
ونحن نعرف انه وبالاضافة الى لجنة التحقيق الفلسطينية، كانت هناك جهات اخرى، قامت بأخذ عينات من اجل اجراء الفحوصات وبالتالي من اجل محاولة التوصل الى ادلة او الى طرف خيط، ومن ضمنها فرنسا، حيث توفي ابو عمار على الاراضي الفرنسية وفي المستشفيات الفرنسية، وكذلك الجهات السويسرية، والجهات الروسية، وقامت هذه الجهات بنشر او بتسليم تقارير تحوي نتائج للفحوصات، وبالأخص لفحوصات الرفات من عظام ومن محتوى القبر وغير ذلك، ونحن نعرف ان الهدف الاساسي المعلن من اخذ عينات من رفات الرئيس ابو عمار، كان من اجل اجراء تحاليل لامكانية وجود مواد سامة في الرفات، او فيما تبقى منه وبالأخص العظام، وبالتحديد البحث عن امكانية وجود مواد سامة مشعة، تتمثل في مادة" البولونيوم" وما ينتج عنها من متحللات او ما يصاحبها من مواد او من مخلفات.
واصبح لا يخفى على احد، انه وبعد اجراء الفحوصات المطلوبة والمتكررة، ان هناك نوعا من عدم التوافق او عدم الاتفاق أو الشكوك المتبادلة بين هذه الاطراف، سواء على نتائج الفحوصات وبالتالي التقارير التي صدرت عن هذه الجهات، او على الاسباب التي ربما ادت الى وفاة ابو عمار، وبالتالي ما زالت القضية مفتوحة، ولم يتم بعد توفير الإجابة القاطعة المقنعة، على السؤال الأهم والذي يراود المواطن الفلسطيني وغير الفلسطيني، منذ ثمانية عشر عاما، الا وهو كيف توفي ابو عمار، وما السبب او الأسباب، ومن كان المسؤول عن ذلك، هذا اذا كان هناك مسؤول او مسؤولون عن ذلك.
وما يزيد الأمور غموضا وبلبلة وتعقيدا، ان معظم بل كافة الفحوصات المتعلقة بقضية الرئيس ابو عمار، قد تم إجراؤها في الخارج، اي ليس على أراض فلسطينية، او عن طريق أيادي فلسطينية، او في مختبرات فلسطينية، او في ظل القوانين والإجراءات الفلسطينية، او على الاقل بدون مشاركة جهات فلسطينية مختصة في عملية التحاليل والفحوصات واستخلاص النتائج، ومن ثم صياغة التقارير، بغض النظر عن الأسباب، سواء أكانت هذه الأسباب علمية او قانونية او غير ذلك من الأسباب.
ولهذا فإننا بحاجة الى إنشاء وتشغيل مركز وطني متخصص متقدم لفحص السموم في إطار مركز أكبر واشمل للعلوم الجنائية، بحيث يعتبر هذا المختبر ركيزة أساسية من اجل اتخاذ القرارات او لتوضيح الشبهات او من اجل نزاهة الأحكام القضائية المبنية على أدلة علمية، وتقديم الأدلة الواضحة، حيث يعتبر مختبر السموم أو مختبر العلوم الجنائية أحد الأسس لبناء جهاز قضائي نزيه، وفي نفس الوقت لاتخاذ قرارات مصيرية او لتوضيح طبيعة وكمية مواد مشبوهة قد تؤرق المجتمع الفلسطيني.
وان هذا المركز المتخصص الذي يشمل مختبراً للسموم، سواء اكان يشرف علية مجلس مستقل ويتمتع بالكفاءة، او كان تابعاً للجهاز القضائي الحكومي أو يتبع مؤسسة أهلية كجامعة أو مركز أبحاث، أو حتى تابعا للقطاع الخاص، من المفترض ان يكون مؤهلاً للقيام بعملية استخلاص العينات او المواد المشتبه بها او تلك المفترض فحصها، ومن ثم تنقيتها وتحليلها وتقديم التقرير العلمي لربط الوقائع مع بعضها البعض، وصولاً إلى نتيجة واضحة ومن ثم قرار قضائي على أرضية علمية.
ومع حلول الذكرى الثامنة عشرة لوفاة ابو عمار، ومع صدور تقارير متناقضة من هنا او من هناك من قبل الجهات المتدخلة او الضالعة أو المهتمة في القضية، من الواضح انه لم يتم حتى الآن تقديم إجابات واضحة او مقنعة للناس، ولكن ومع مواصلة لجنة التحقيق الفلسطينية أعمالها، أو على الاقل، عدم الإعلان عن انتهاء أعمالها بشكل رسمي ونهائي ومقنع، يبقى الباب مفتوحا من اجل تقديم إجابات واضحة ومقنعة وشافية وغير معقدة، مرة وللابد، عن هذه القضية التي ما زالت تدور من بلد الى آخر ومن جهة الى اخرى، بدون تحقيق التقدم الذي كان من المؤمل تحقيقه قبل زمن طويل، وبدون اقناع المواطن البسيط العادي بنتائج وحتى لو كانت معقدة ولكنه على استعداد للاقتناع بها.