مدخل :
في مؤلفة " المقدمة" أشار بن خلدون مؤسس علم الاجتماع " أن تعميم الجزء على الكل يفضي إلى الخطأ ". ومن ناحية الإرث النظري عالج المنظر بليخانوف موضوع الانتفاضة في مجلداته في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر. أما الثوري الايطالي لوسو فقد خصص كتابا غنيا مشتقاً من الانتفاضة الايطالية في بدايات ثلاثينيات القرن الماضي . وقد دفع المفكر غرامشي ثمناً لهذا النهوض فأمضى سنوات في السجن وأطلق سراحه ليموت في اليوم التالي ، وكان لهذا المؤلف تأثيره في توجيه الانتفاضة الفلسطينية أواخر 1987.
بات الفكر الثوري علما وينبغي أن يدرّس كعلم " انجلز منذ قرن ونصف ، وهذا ينسحب على المقولات الكبرى ، كالثورة الصناعية أو الديموقراطيه الليبراليه او العولمه أو الموهبة أو القفزة الاكاديميه ... فليس كل تحرك شعبي انتفاضة ، وليس بضعة مشاغل ومصانع ثورة صناعية ، وليس إنشاء حفنة كليات تلقينيه قفزة اكاديميه، وليس كل انتخاب يعتبر نظاما ديمقراطيا ، وليس كل موقف لماح وذكي موهبه لا تضارع... فثمة معايير لكل مقولة استخرجت من تجارب ومقاطع تاريخيه كبرى .
صحيح ان الفكر يرتبط بالملموس والخصوصية ، ولكن ثمة جوهر ، صفه أساس ، تحضر في الخصوصية وكل خصوصية ، وهذا المشترك هو الجوهر أما الفوارق فهي تندرج في إطار خصائص الملموس . ولولا ذلك لما اعترفت البشرية بوجود علوم متفق عليها .
والمشترك الجوهري في كل انتفاضات العالم بنماذجها المتعددة وأشكالها المتنوعة سواء كانت عفوية أو منظمة، محليه أو عامة عنيفه او سلميه أو كوكتيل من كل ذلك ، أنها ( نهوض شعبي عارم ) أي أنها ليست إضرابا وحسب، أو مجموعة ثوريه وحسب أو فاعليه وحسب...
قام أرسطو منذ الفين ومئتي عام وأكثر بتعريف السياسة " أنها إدارة الحاكم للحكم والشعب" ولم يذهب للثورات والانتفاضات ، كما لم يكن في زمن ثورة سبارتاكوس التي زعزعت الإمبراطورية الرومانية ولا ثورة الحواجب الحمراء في الصين على أسرة شين ولا ثورة العبيد التي قادها يونس السوري على الأسياد الرومان في القرن الثاني الميلادي أو الانتفاضة الاثينيه التي أسست أول ديمقراطيه في القرن الخامس قبل الميلاد ...
أما في زمن الثورات البرجوازيه بطابعها الشعبي في أواخر القرن الثامن عشر( الفرنسيه 1789) التي دشنت عهداً تاريخيا جديداً، والعصيان الانتفاضي الذي وحد ايطاليا أواسط القرن التاسع عشر ، وتوحيد ألمانيا 1876، فقد خلقت الشروط ألاقتصاديه – الاجتماعية للإضافة على المقولة الاثينيه ( الديموقراطيه هي حكم الشعب ) بان الديمقراطية ( هي التسويات وحل المنازعات ) وتشترط بداهة تصادم الإرادات ، وهذا دفع لينين بعد عقود واستناداً الى كومونة باريس 1870 لتعريف السياسة (بأنها الصراع الطبقي والقومي ) فهي تعالج قضيتين ( المسألة الطبقية والمسألة القوميه ) . وشأن بليخانوف وماركس وسواهما نظّر للانتفاضة والثورة كركن ركين في النظريات الاشتراكيه.
قبل سنوات اتصلت بي صحافيه ( لعقد ندوة ثلاثيه مع فلان وعلان ) سألتها حول ماذا؟ أجابت الانتفاضة . اردفت : كفهم نظري؟ قالت : الانتفاضة المشتعلة في الضفة . قلت : هذه تظاهرات محليه متباعدة وليست انتفاضة وربما أن الضيفين الآخرين قادا انتفاضة أو لديهما باع طويل في المسألة الفكرية ، أما بالنسبة لي فاعتذر عن المشاركة .
بداهة ادرك ان المسائل السيسيولوجيه ملتبسه واقل وضوحاً بخلاف العلوم الطبيعية ، الى درجة أن تقوم المثقفة الفرنسية كلوكهون بإحصاء 167 تعريفا للثقافة. وما انطلق منه ليس الترف والسفسطه ، وإنما ضرورة استخراج معيار جوهري للاتكاء عليه لاشتقاق متطلبات دفع العربة للأمام، وبذلك يرتبط الفهم بالممارسة والفكر بالسياسة ، والانتقال من طور إلى طور أعلى فلا تتكرر مأساة كومونة باريس ولا حركة السترات الصفراء في فرنسا التي استمرت في الشارع نحو عام ولا النتائج السياسية للانتفاضة المصرية الأعظم في التاريخ من ناحية اتساع المشاركة الشعبية التي بلغت 6 ملايين في أيام الجمع... ولا نهج إحلال الطلائع الجذرية اليساريه محل الجماهير في أمريكا اللاتينيه في ستينيات القرن الماضي ، فكانت صرخة عظيمة ولكنها أبيدت .
ما أن تحرر هوتشي مين من السجن الصيني الإمبراطوري التحق بغابات فيتنام فاقترح عليه رفاقه ( الاستيلاء على ولاية) أجاب ( نتبع التاكتيك الذكي الذي يسمح لنا بإنهاض عموم فيتنام ).
في العلم النظري أو المرجعيات الفكرية
لقد عرفت المسيرة الفلسطينية كل أشكال النضال، من البيان والعريضة والنشرة والنشاط الإعلامي وإصدار الكتاب والبحث، مروراً بالكفاح المسلح وحرب المواقع ، عرجاً على الإضراب والتظاهر والعنف الشعبي والانتفاض، وصولا إلى المفاوضات والعمل الديبلوماسي والخيار التسووي وما بينها ( عالجت ذلك في مقالتي هل ثمة نموذج نظري للنضال الفلسطيني ) ؟
بما ارتبط بذلك من تحقيب وتداخل بين الأشكال . والقوى التحررية الفلسطينية سواء كانت "يمينية" أو " يسارية " أنما انخرطت في صنع هذه المسيره . والرموز اليسارية الأكثر عمقاً لفتت الأنظار مبكراٍ إلى ( أن الماركسيه تقر مختلف أشكال النضال ، فهي لا تخترع الأشكال ولا تضع صيغاً تجريديه ولا تصدر بحقها سلفاً مراسيم مباركة أو حرمان، ولكنها تعمقها من التجربة وتنظمها وتعطيها التعبير الواعي. في أثناء الممارسة تتوالد أشكال جديدة متنوعة في أساليب الدفاع والهجوم وتتصاعد مع نمو الحركة النضاليه الجماهيرية وتطور الوعي الطبقي لدى الجماهير) لينين و ( أن الماركسيه تتطلب منا تفحص تاريخي كامل لمسألة أشكال النضال ، إذ أن معالجة هذه المسألة بعيداً عن الوضع التاريخي الملموس يعني اخفاقاً في فهم جوهر المادية الديالكتيكيه وانه دون إجراء بحث تفصيلي ملموس في مرحلة معينة من مراحل النضال يعني هجر الموقف الماركسي هجراً كاملاً) لينين – حرب الغوار . الشيء الذي ( يفترض من الطليعة الثورية أن تنتبه إلى ولادة هذه الأشكال الجديدة وتعميمها وتنظيمها وقيادتها ) ماركس وان ( الحرب الثورية هي حرب الجماهير) ماو، والمثل الصيني الذي لطالما استخدمه هو ( وترّ القوس ودعه ينطلق ) و ( رحلة آلاف ميل تبدأ بخطوة واحدة ) شريطة السير على الدرب الصائب ( إذ ما فائدة الركض على الطريق الخاطئ) مثل ألماني .
انشأ ماركس كثوري وفيلسوف ( أن الشعب الذي يطمح للفوز باستقلاله يجب أن لا يحصر نفسه بالحرب التقليديه ، فالانتفاضة الجماهيريه وحرب الغوار هي الوسائل التي من خلالها ينتصر شعب قليل العدد على عدو اكبر منه ...) وأضاف ( ما أرهق الجيش الفرنسي في اسبانيا هو الإزعاج من قبل المجموعات الغواريه .. والأسطورة التي تروي قصة الأسد الذي يلدغه البعوض حتى الموت هي صورة صادقة..)
وتماشيا مع ماركس كتب لينين عن دروس انتفاضة موسكو 1905 ( أن انتفاضة موسكو فتحت تاكتيكا جديدا، تاكتيك حرب الغوار لمجموعات صغيرة ) وهذه الانتفاضة تعلمت من فشل كومونة باريس فأمسكت بالحلقة المركزيه ( الحزب الطليعي ) وماو ذهب نفس المذهب ولكن ضمن الخصائص الصينية بالقول ( الثورات والحروب الثورية هما حتميان ودونهما لا تتحقق قفزة في التطور الاجتماعي ) و( الحرب الثورية هي حرب الجماهير ولا يمكن شنها إلا بتعبئة الجماهير والاعتماد عليها ).
وللتمييز بين الانتفاضة والحرب الشعبية انشأ ( أن نظريتهم التي تقول أن علينا كسب الجماهير أولا على نطاق البلاد وفي كل المناطق ثم تأسيس سلطة سياسية لا تنطبق على الوضع الواقعي للثورة الصينية ) ولذا اختار طريق حرب الشعب التي انتصرت عام 1949. أما لينين قائد ثورة أكتوبر 1917 فقد اشترط ( حزب مقاتل لا يقبل الانقسامات / جماهير منظمة ومسلحة .
تحالف العمال والفلاحين وكسب أوساط من الجيش / قيادة سياسية وعسكرية مركزيه / تحديد طبقات الثورة والطبقة القائدة / توفير برنامج صحيح وقيادة ثورية تحريض سياسي واسع وعزل النظام الرجعي ) فيما ماو انطلق من مبدأ واحد هو الذي أسهم في إنضاج جميع شروط الوضع الثوري ( من دون القتال لن يكون هناك مكان للصين ولا للعمال ولا للشعب ولا للحزب الشيوعي وسيكون من المحال انتصار الثورة) و (لا يقاتل الجيش الأحمر لمجرد القتال وإنما لتحريض الجماهير وتنظيمهم ) ماو – مسائل الاستراتيجيه ، وبلغ جيش الشعب في عام انتصاره 5 ملايين مقاتل وهذا لم يتحقق لولا ( حماية القوات الثورية من السحق أما بتوفير قاعدة آمنة أو تأمين حماية جماهيرية أو امتلاك قدرة عاليه على الاستخفاء)
" تحليل ملموس للواقع الملموس" هي قاعدة منهجيه ، وتفضي لتمايز كل تجربة عن التجارب الأخرى ارتباطا بالخصائص القومية والشروط الموضوعيه ، أما المثلثان المتطابقان فلا وجود لهما إلا كفرضية في الهندسة إلاقليديه. والتمايز لا يعني القطيعه . بل هناك الجوهر المشترك ايضاً. وقد استند لينين إلى ماركس ( من المجرد العام إلى الملموس الخاص) ( وفيما حلل ماركس المرحلة الراسماليه تميّز لينين بقراءة الراسماليه الامبريالية وهنا أضاف ( ضرورة أن نبحث وندرس ونستخلص ونخمن وندرك ما هو قومي خاص وما هو قومي نوعي ... وعليكم أن تجتنبوا التقليد الميكانيكي للنموذج الروسي ) ذلك ( أن النظريه مرشد للعمل لا عقيدة جامدة )
فالانتفاضة الروسية في 1917 غير سمات الانتفاضة البلغارية في الأربعينيات وهما مغايرتان للانتفاضة الايرانيه في أواخر السبعينات ، وحرب الشعب في فيتنام غير حرب العصابات في كوبا .. الخ
قد يقول قائل وما حاجتنا لكل هذه المنهجيات ، نريد إنتاج نموذجا وعلومنا وفكرنا ... الخ وبعد تبرئة هؤلاء من صفة الجهل والكسل الذهني ذلك ان تجارب الآخرين غائبة عن عقولهم ، الجواب هو : التاريخ البشري مستودع ضخم للخبرات والمعارف ... ولا يستطيع احد البدء من الصفر متجاهلا أن الدورة العلمية تتضاعف كل 6-7 سنوات فما بالكم بما راكمته الدورات ما بعد الثورة الصناعية والتقنية وثورات الشعوب وفكرها السياسي وكون الثورة الفيتناميه تعلمت من الثورة الصينيه وسواها بما في ذلك الجمع بين الانتفاضة وحرب العصابات والحرب الشعبية وتحالف الطبقات الثورية ومواجهة الاستعمار والطبقات الرجعيه... وتوفير الشرط الذاتي والقيادي فتكلل كفاحها بالانتصار . ولأن الكوبيين تحصنوا بدروس حرب العصابات في البرازيل في أواخر العشرينات ، وتفادوا أخطاءها وزادوا من عندهم نظريه البؤرة والقيادة والكارزماتيه والشجاعة منقطعة النظر .. أثمرت عمليتهم الثورية . ومهما يكن من أمر لا ينبغي أن يتحول الجهل إلى نظريه ، فكثير من الأحيان يعمل المرء ضد نفسه، فحسن النوايا لا يعني أن الدرب صحيح والبطولة وحدها لا تكفي لبلوغ الأهداف .