الحلقة الثالثة والاخيرة
مقاربة استشرافيه ، هل نقف على أبواب انتفاض شعبي وحرب اقليميه ؟
ليس اخطر من حشر إنسان وظهره إلى الحائط، فغريزة البقاء هي الغريزة الأولى ( علم النفس المادي – بلاتينوف) تدفعه لمواجهة الخطر ، ناهيكم عن تغلغل الثقافة الوطنية وتأثيراتها. لقد خدرت التفسيرات المتفائلة " لأوسلو " قطاعات من الشعب الفلسطيني ، أما اليوم فقد " ذاب الثلج وبان المرج " من وجهة نظر عموم الناس . ومثلما أن هناك بطارية حجج للموقعين على أوسلو ثمة بطارية حجج للمناهضين ولكن البوصلة تقطر الغالبية الساحقة اليوم ان لم يكن ما يشبه الإجماع نحو " أن التسوية وصلت طريقا مسدوداٍ" وشخصيا في كتابي " التسوسة الجارية إدارة أزمة أم حل أزمة عام 1999 أجبت أنها إدارة أزمة ، وهناك من سبقني في هذا الاستنتاج سواء كتب نصا قصيرا اونصاً طويلا ً .
وأية إجراءات احتلالية تصعيدية، وهي مثابة الزيت الذي يصب على نار المواجهة . لنتذكر حادث دهس الحافلة للعمال الفلسطينيين في جباليا أواخر 87، واقتحام شارون لباحات الأقصى ، واغتيال الجعبري ومن بعده أبو العطا في قطاع غزة . فكل منها أشعل فتيل انتفاض او حرب. وقبلئذ لنعد الى معركة الكرامة 1970 "وتهشيم البيض قبل أن يفقس) فقد تحولت لانطلاقة ثانية بانضمام ألاف المقاتلين للثورة إلى درجة عدم قدرتها على استيعاب الجميع.
ولو ذهبنا لنضالات الحركة الأسيرة ، فهي في غالبيتها رداً على إجراءات تعسفيه سواء من مصلحة السجون أو مرجعياتها أو تطرف الجهات الامنيه..
انظروا إلى حصار غزة ، هل إنصاع القطاع أم ضاعف من قدراته مرات ومرات؟ فالإجراءات الاحتلاليه يدفع ثمنها الفلسطيني ولكن بدل أن تكبح جماحة تدفعه للمواجهة سيما الجيل الشبابي الذي أغلقت أبواب المستقبل أمامه ولن يخسر إلا قيوده تحويراً لكلمات ماركس ( لترتعد الطبقة الرأسمالية من الثورة الاشتراكية فالعمال لن يخسروا إلا قيودهم ).
أما العامل الأشد وطأة في استنزاف ديناميه الاندفاعة الثورية فهو الاخلالات الداخلية . وفي المقدمة ضعف الأدوات السياسية المنظمة في الضفة، ( ليس هنا مكان تشريح الأسباب ففي الانتفاضه الأولى كانت جهوزية القوى عاليه وتضاعفت قاعدتها مرات في غمرة الممارسة الانتفاضية، ولهذا جاء طابعها جماهيري وضبطت توزيع قواها بما يحافظ على هذا الطابع. وفي الثانية كان لها محطات جماهيريه وفي الغالب نخبويه. وفيما كان للأولى قيادتها وهدفها وبرنامجها لم تتمتع الثانية بهذه الخصائص.
ويتوقف على سلطة غزة والغرفة المشتركة فيما إذا كانت ستشارك في المعمعان أم لا ، مثلما على سلطة الضفة وقواها تحبيذ المشاركة أو عدم المشاركة أو مشاركة دوائر دون غيرها . ففي الانتفاضة الثانية كانت السلطة أمام هذا الامتحان ، وجرى استهداف بعض رموزها والمئات من كادراتها بين استشهاد واعتقال . ووزير الجيش غانتس استبق الأمور بالقول ( السلطة في خطر ) وباراك صرح أن الشهيد ابو عمار (خدعنا) وجاءت البانوراما والنتيجه ... ثمة خلل لا ينبغي القفز عنه هو ميول التراخي الممتد في أوساط واسعة من الشعب الفلسطيني. ومثل هذا التراخي كان في أعوام 85-86-87 ولكن ما أن اندلعت الانتفاضة انخرط معظم الناس في فاعلياتها وفي الإضرابات العامة كل الناس ...
اللوحة مركبة والوعي والاستعدادات مركبة أيضا ، أما الجيل الشبابي فكمونه أعلى من غيره ومجاميع واسعة متخففة من أعباء العائلة والأطفال والأمراض والقروض من البنوك، ولم تتآكل كل عظامها ولحمها في السجون وغير محبطة ولديها قابلية أن تقتحم السماء لصناعة مستقبلها ..آخذين بالحسبان السمات العاطفية للفلسطينيين وفخرهم بالإرث النضالي لأجيالهم المتعاقبة ... والتفشي الكيميائي للثقافة الوطنية في عمق التكوين الروحي للفلسطينين وهذا احد اسباب تفسير الظاهرة الفدائية في مخيم جنين وعدد من القرى وفي الأحياء القديمة من نابلس وسواها وتوصل عدد كبير لتسويه مؤخرا. طبعا أن الحماية الحقيقية لهذه الظاهرة هي الحاضنة الشعبية والنهوض الشعبي .
ولأن حراك السترات الصفراء في فرنسا أفتقد للقيادة والبرنامج السياسي تبدد في النهايات ، ولأن الموقف الفلسطيني لم يثبت على شعار " الحرية والاستقلال" في الانتفاضة الكانونية وصلنا إلى ما وصلنا أليه ، ولأن الانتفاضة الثانية بلا قيادة وارتبك شعارها السياسي انحسرت وتعسكرت وأصابها ما أصابها وهذا حال الانتفاضه المصريه .
فللتاريخ قوانينيه ، ودون إدراكها وتسخيرها تفعل هذه القوانين فعلها وتعاقب الناس بصرف النظر عن رغباتهم. والفخ المنصوب للإرهاصات والبؤر المتقدمة هو التعظيم من شأنها وكأنها بديلا للجماهير والنهوض الشعبي . التعظيم والتمجيد هما سمه أخلاقيه أما القفز عن الجماهير فمسألة سياسية لها ارتداداتها .
سألني مرة سفير اجنبي، لماذا تعظمون الشهداء ؟
أجبته : كيف تنظر أنت ؟ قال : ينبغي فحص اسباب الاستشهاد وتفادي الأخطاء . وللصدفة كان ثمة تأبين لشهيد بعد أسابيع . وهناك من القى خطاباً ناريا بما امتلكه من خطابيه متمرسة . سألني ما رأيك بالخطاب ؟ رويت له ما قاله السفير " لوى بوزه ، بما هو اقرب للامتعاض .
****************
يتكرر في الاتفاقات الوطنية تعبير ( تشكيل قيادة انتفاضية أو قياد للعمل الوطني ) من دون توضيح أين؟ مع تغييب صفات هذه القيادة . وهذا يوجب بعض الأسئلة هل تسمح السلطات الاستعمارية بتشكيل قيادة علنية من هذا القبيل في الضفة ؟ وفي حالْ تشكيلها من شخوص ليسوا انتفاضيين وبلا أدوات هي " النواه الصلبه" القادرة على تنفيذ مهام كثيرة ، هل يصغي لها الشعب وعلى الأقل المنتفضين ؟ ولماذا جرى استهداف الشيخ ياسين والدكتور الرنتيسي وأبو عمار ومروان البرغوثي وابو علي مصطفى واحمد سعدات وكوكبه طويله من الكبار ...
أذكر أنني قرأت في أواخر الثمانينات عن تخوفات القيادة الفلسطينية من تشكيل قيادة موازنه في الداخل المنتفض ، كأحد عوامل ذهابها لمدريد – أوسلو علما أن الداخل كان ينظر بقدسيه للقيادات في الخارج ... فكيف سيحل التناقض بين قيادة السلطة في الضفة وقيادة السلطة في غزة ( يؤسفني القول أننا بتنا سلطتين ) بما للسلطة من حسابات يوجبها وضعها الموضوعي ، وإمكانية نهوض شعبي عارم انتفاضي ؟
هذا سؤال ليس سهلا كما أن الإجابة عنه أكثر صعوبة . المثقف يثير السؤال عموما اما الفيلسوف فيشتق السؤال ويبتكر الجواب . ويبدو أن واقع قضيتنا يتطلب البعدين معا. وان جازت الثقة بأن البشر قادرون على صنع تاريخهم وإيجاد حلول لمعضلاتهم ، في نهاية الأمر ، غير ان تحدّي الشرعيات موضوع جدي، شرعيه الشارع أم الشرعيه السياسية؟ ومثل هذا التناقض لم تعرفه الثورة في كوريا، ذلك أن الشرعية السياسية في المناطق المحررة كانت تقود الفاعلية الشعبية ، والأمر نفسه ينطلق على المقاومة الصلبه في بيلاروس في سنوات الحرب الكونية الثانية والثوره الجزائريه.
ومهما يكن من أمر ففلسطين مستباحة وكل الشعب الفلسطيني مستهدف وهذا يوجب على اقل تقدير عدم الشيطنة وتراشق الاتهامات .
فتعدد الأجندات يشتت القوى ويدفعها للتصادم أحيانا وماذا عن المهارات ، فهل الموقف الثوري وحده قادر على نقل الإرهاصات والنويات الى انتفاض شعبي ، وهل هو قادر على قيادة انتفاض شعبي ؟ التجارب التاريخية أكثر تعقيداً.
وفي التحليل الأخير ، يمكن أن يذهب مسار الأمور في اتجاهين استمرار الحالة القائمة أي تحركات وبؤر واعمال فرديه قد ترتفع قليلا أو تخفت قليلا . وليس ثمة استشرافاً هنا فهذا تحصيل حاصل . أو اتساع التحركات والبؤر إلى مستوى الانتفاض . وهذا يعيدنا إلى عوامل الكبح. ولكن ما ينبغي الإشارة إليه أن شكل الوجود الاحتلالي لم يعد كما السابق في زمن الانتفاضتين . فقطاع غزة تفلت من قبضة الاحتلال نسبيا، والمواجهات الشعبية من تظاهرات وتحشدات وإضرابات عامة واقتصاد منزلي.. لم تعد كالسابق، كما تراكمت إمكانات المقاومة التي رأيناها بجلاء في مواجهة أيار ( سيف القدس ) وقبلئذ في مسيرات العودة ...
وتراجع شكل الوجود الاحتلالي المباشر في مدن الضفة ، إلى درجة تقلص المواجهات الجماعيه في حدود نقاط الاحتكاك ، . وبالتالي تقهقرت التظاهرات الجماهيرية وتقلصت أيام الإضراب على امتداد العقدين الأخيرين ، ولم يثبت في الممارسة تحشد الناس بأعداد هائلة في الحيز العام وأن اكتظت مراكز المدن أحيانا بالناس يطوفون في الشوارع الرئيسة. ان مغزى الإشارات أعلاه ان شكل النموذج الانتفاضي المتخيل لن يكون على شكل النموذجين في الانتفاضة الأولى والثانية . والاستشراف هنا متعذر ذلك أن الإبداع لاضفاف له والميدان لا يصغي لأي تصورات أو كليشهات او ترسيمات ثمة نغمه تقول أن غزة سوف تقصف كما في سيف القدس . والسؤال هل تذهب غزة بهذا الخيار دونما خطوات منسقة مع محور المقاومة في الإقليم ؟
فعبارة " الترند" الأقوى حضوراً هي ( الحرب الشاملة وهذه لا احد مستعد لها في اللحظة الراهنة لا عواصم عربية ولا إقليميه ولا تل أبيب ولا حركات شعبية اتصالا بالأولويات والتحديات الضاغطة .
صحيح ان الإقليم غير مستقر كما شخص مقرفص على قدميه، والتناقض مستعص وهذا كله وسواه موضوعي ، أما الشرط الذاتي الذي يشعل الحرب فهو غير متوافر في هذه اللحظه .
ولو كانت المقاربة غير ذلك لاشتعل حريق شامل في الإقليم في السنوات الأخيرة بل وثمة جديد هو الحرب المتعاظمه في اكرانيا بين الذين يسعون لتكريس الهيمنة الأمريكية وبالتالي تدمير الاقتصاد الروسي وتفكيك الدولة ومحوطتها ونهب ثرواتها ، وبين الذين يثقون بقدرة الاتحاد الروسي على الصمود وارتداد العقوبات التي فرضها الناتو على العواصم الغربيه وبالتالي ظهور نظام دولي جديد تبقى فيه أمريكا دولة عظمى لكن دون هيمنة سياسية واقتصاديه وهيمنة لثقافتها وقيمها .. والمقاربة الأولى تخدم محور واشنطن – تل أبيب ... والمقاربة الثانية تخدم محور المقاومة وصولا إلى روسيا والصين ... ( هذا عنوان لمقالة منفصلة ) .
وختاما، ماذا عن " العامل الخارجي" فالسياسة الأمريكية حاليا تصعيديه ليس في أوكرانيا لاستنزاف روسيا ... وليس في تايوان وتشكيل الأحلاف لمحاصرة الصين والضغط لفصلها عن روسيا (بلغ التبادل التجاري بين روسيا والصين هذا العام أكثر من 140 مليار$ وهناك ملفات عدة تشتركان فيها ) بل وأيضا تجميد التفاوض حول الملف النووي الإيراني وزيادة العقوبات وخلق البلبلة في الساحة الداخلية واطلاق المؤامرات على لبنان وسوريا وبوليفيا وكوبا ... في محاولة لتكريس الهيمنة .
وبتأليف حكومة أكثر يمينيه وما يرشح من توعدات وتوجهات ألا تستعجل إشعال حريقا في الإقليم بالجملة أو بالمفرق ؟
لكن هل ثمة ضمانة أن لا يتحول المفرق للجملة سيما أن إمكانات محور المقاومة النوعيه في تعاظم وهو ينتقل من محور إلى جبهة ؟
تساؤلات برسم المستقبل القريب ، وأفضل وأكفأ ناطق لرصد المتغيرات واستشراف حركتها هو السيد... قائد المقاومة الشعبية العربية كاستراتيجي من جهة ويتمتع بصدقيه القدرة والفعل من جهة أخرى .