الملامح الرئيسية لصورتنا الوطنية القائمة كما هي، لا كما نتمنى ونشتهي:
- لدينا سلطتان، واحدة شرعية يفترض أن تمتد ولايتها القانونية والتنفيذية إلى الضفة وقطاع غزة ولكنها تقتصر واقعياً على الضفة مع ولاية معنوية على غزة، والثانية تفرض ولايتها التامة على غزة، بقوة ومفاعيل الانقسام، وبقوة وحقائق الأمر الواقع المادية المتعددة التي تم تشكيلها وفرضها بعد انقلاب 2007.
- لدينا انقسام عميق بين السلطتين وما تمثله، كل منهما يطال الفكر والبرامج والسياسات والتحالفات، كما يطال معايش الناس وحرياتها. والانقسام أصبح راسخاً ولا تبدو بالأفق بوادر واقعية للخروج منه، بل إنه يهدد بانقسام كياني إذا ما توفرت الظروف المحلية والإقليمية المناسبة.
- وجود علامات استفهام كبيرة حول شرعية معظم المؤسسات الوطنية.
- معيشة الناس تشكو من الصعوبة والعنت ما يصل حد التأزم، إنْ لجهة عدم توفر المقومات المادية لحياة كريمة، وإنْ لجهة الارتفاع المخيف لمعدلات البطالة، وإنْ لجهة التعدي على الحريات العامة.
- ناهيك عن وجود ضرورة موضوعية لبرنامج، أو برامج، وطنية جديدة أو معدّلة، تتناسب مع ما حصل من تغير وتطور على الأوضاع الذاتية والعامة، ومع الحقائق والدروس التي أفرزتها تجربة الممارسة الواقعية على هدي نفس البرامج القائمة. هذا إذا لم نكتف بالحكمة الأزلية حول سنّة التغيير بوصفها من أهم سنن الحياة وديمومتها.
- ومع التقدير لمبادرات ما زالت محدودة، وباستثناء الشكوى العفوية من غالبية الناس، فإن هناك غياباً شبه تام لحالة جدل مجتمعي فاعل ومؤثر تسهم فيه شرائح واسعة ومتنوعة من المجتمع وقواه المستقلة والمنظمة، تكون قادرة على الفعل والتأثير المطلوبين، ويزيد في غياب حالة الجدل، الغياب غير المفهوم أو المبرر لدور وفعل- وربما وجود- الاتحادات الشعبية والنقابية.
في مقابل الملامح الأساسية لصورتنا الراهنة، هناك الصورة المقابلة، صورة الكيان الغاصب المحتل لأرضنا والمعتدي والمنكر لكل حقوقنا المشروعة. صورة هذا الكيان تُختصر في السنوات العشر الأخيرة، على الأقل، في ملمح أساسي واحد، هو ملمح تغول العنصرية والفاشية وطغيانه على كل ملامح الصورة الأخرى.
التعبير الأبرز لهذا الملمح يتجلى في الرفض المبدئي القاطع لقيام دولة فلسطينية أو أي نوع من الكيانية السياسية، والتمسك الحاسم بدوام الاحتلال مقترناً بتغول الاستيطان واستباحة كل الأرض المحتلة على مذبحه، وكل ذلك يترافق مع تصعيد غير مسبوق في عدوانية تصل حد الفاشية في أبشع صورها.
إن طغيان هذا الملمح في صورة الكيان المحتل تمتد مفاعيله وتعبيراته من الأشكال المعروفة والمعاشة يومياً إلى تعبيرات عنصرية تذكر بأيام هتلر ومعاملته لليهود حين كان يسمهم بعلامات خاصة تميزهم.
مثال أخير على ذلك هو منح قوات الاحتلال بعض أهالي الخليل المقيمين قرب البؤر الاستيطانية أرقاماً خاصة تلصقها على بطاقات هوياتهم تميزهم عن غيرهم. وتمتد مفاعيله وتعبيراته إلى الحيز الثقافي أيضاً، كمثل قرار وزير التعليم الإسرائيلي استثناء رواية عن علاقة حب بين امرأة يهودية ورجل فلسطيني من قائمة الكتب المطلوب قراءتها في مادة الأدب بالمدارس العبرية، وذلك من مفهوم عنصري يرى أن «الزواج بغير اليهود ليس في مناهجنا» كما قالت إحدى المسؤولات دفاعاً عن صوابية القرار، وسبق ذلك منع عرض مسرحية كتبها أحد الأسرى على مسرح حيفا.
كيان غاصب بهذا الملمح الطاغي في صورته لا يمكن، ولا يجب بحال، الرهان على التوصل إلى أية حلول معه ولو بأدنى مستوى. وإذا كان من ضرورة دولية تفرض شكلاً من التعاطي معه، فإنها يجب أن تنحصر في خدمة تكتيك يسعى لكسب الشرعية الدولية ولمحاصرة العدو وعزله دولياً في إطار المقاومة السياسية الدبلوماسية والتضامنية.
من واقع حقائق الصورتين المتناقضتين المعروضتين لا يبقى من خيار إلا خيار الرهان على الذات الوطنية الفلسطينية، خصوصاً وأن لهذا الرهان أرض خصبة يعيش وينمو عليها، تتمثل أساساً في تجذر الانتماء الوطني لشعبنا ورسوخ إيمانه وتمسكه بحقوقه الوطنية واستمرار نضاله بكافة أشكاله لنيلها. إضافة إلى كل الحديث والمطالب المحقة بإنهاء الانقسام، وضرورة تفعيل المؤسسات الوطنية وتجديد شرعيتها وبرامجها، ووجوب التغيير والتجديد في هيئاتها واستيعابها للكل الوطني، وغير ذلك من المطالب، إضافة إلى كل ذلك، تبرز الأهمية الخاصة للمبادرة إلى إطلاق حالة جدل مجتمعي جادة وواسعة، تقوم على رؤى متجددة تستجيب لحقائق الوضع القائم.
إن إطلاق هذا الجدل المجتمعي، وما يمكن أن ينتج عنه من مخرجات، يسهم بشكل أساسي وفاعل في التعامل الملائم والمطلوب مع الملامح المذكورة لصورتنا، وفي توفير حماية للوحدة وللمنجزات الوطنية، وفي تصعيد النضال الوطني بكل أشكاله، وفي تشكيل سد في وجه أي انقسام أو خروج وتجنح.
إن انطلاق حالة جدل مجتمعي لا يجب أن تعني بحال، تشكيل جسم سياسي أو تنظيمي، ولا أن يكون الهدف من ورائها مناهضة هذا الطرف الوطني أو ذاك، إنما هي دعوة إلى مشاركة الناس بشكل واسع في مناقشة قضاياها ولعب دورها الطبيعي بالمساهمة في تحديد المسار الوطني وتوفير متطلباته والتغلب على عقباته وقصوراته القائمة.
إن حالة الجدل المطلوب إطلاقها يفترض أن تتسع لمبادرات من أكثر من جهة، شعبية أو تنظيمية، وتتطلب توحيد المبادرات إن وجدت، وهي تتوجه إلى أوسع القطاعات الجماهيرية لا فرق بين منتظم وغير منتظم.
وبقدر ما تكون حالة الجدل المطلوبة واسعة الأفق ومستوعبة لأوسع مشاركة وأكثرها تنوعاً، فإن نجاحها يشترط أن تكون المبادرة إليها وقاعدة انطلاقها آتية من أرض الوطن، مع إمكانية تمددها، بعد ذلك وبعد تبلورها وثبوتها، إلى كل التجمعات الفلسطينية خارج الوطن.