بمناسبة المونديال.. خواطر غير كروية

تنزيل (10).jpg
حجم الخط

بقلم عريب الرنتاوي

 

 

 

لست من عشاق «الساحرة المستديرة»، ولم أتابع «مونديالاً» في حياتي، لا الحالي ولا ما سبقه من «مونديالات»، ولا أذكر أنني شاهدت مباراة كاملة لأي من الفرق المحلية أو العالمية.. وفي بلدي، حيث ينقسم المواطنون بين فريقين رياضيَّين، على أسس «هوياتية» في الغالب، أشعر بالضيق الشديد عند التقائهم، جراء ازدحام الفضاء الإلكتروني بـ»التنابز بالألقاب»، وتفاقم الازدحامات المرورية المتسببة بارتفاع الضغط والسكر في الدم.. ذات مرة في مدريد، بحثت عمّن أهديه بطاقة دعوة لحضور «الكلاسيكو»، كنت تلقيتها من منظمي مؤتمر دولي شاركت فيه، قبل أن أعرف أن سعرها في السوق السوداء، شارف على الألف دولار أو تجاوزها.
لكن «المونديال» يبقى مع ذلك مناسبة فريدة، لرصد بعض التفاعلات السياسية والثقافية والعقائدية التي تجري غالباً على هوامشه، سيما حين تستضيفه، دولة «متورطة» في صراع مع الغرب كما حصل مع روسيا في المرة الماضية، أو دولة صغيرة «يستكثر» الاستعلاء الغربي عليها نيل هذا الشرف.
حينها، يتحول المونديال إلى مسرحٍ لصراع الحضارات والثقافات وساحة لحروب الأديان والطوائف والأقوام، تُشهر فيها كافة الأسلحة، وترتفع في فضاءاتها كافة الرايات، ويسقط «قوس قزح» من عليائه في كبد السماء، إلى ساحات الملاعب وأماكن تجمهر النظّار والمتفرجين.
ليس «المونديال» مناسبة لقهر أمة أو إلغاء هويتها الثقافية والحضارية وطمسها، فالبشرية ما زالت على انقساماتها حيال كثيرٍ مما يقدم بوصفه «قيماً إنسانية مشتركة».. المثلية و»مجتمع الميم» على سبيل المثال، وما يتفرع عنهما من ملفات قانونية وحقوقية وأخلاقية، ما زالت موضع أخذ وجذب حتى في قلب المجتمعات الغربية وبرلماناتها وأحزابها المختلفة، وبعض حقوق النساء (كالإجهاض الاختياري مثلاً)، ما زالت في قلب الحملات الانتخابية الأميركية، النصفية قبل أيام، والرئاسية بعد عامين، ورئيسة وزراء إيطاليا الجديدة، جيورجيا ميلوني، وصلت إلى سدة الحكم والأغلبية في بلادها، بشعار مناهض لـ»أيديولوجيا الجندر».
فلماذا يُراد لدولة عربية - مسلمة، محافظة عموماً، أن تحسم بين عشية وضحاها جدلاً لم يحسم بعد في الغرب ذاته، في حين الشرق الصاعد (روسيا والصين على سبيل المثال)، قال كلمته في هذا المضمار، وأعلن الحرب منذ زمن، على نظرية «القيم المشتركة» لصالح مفهوم بديل: «المصالح المشتركة».
والأصل، أن المونديال، والرياضة عموماً، قاطرة كبرى لتعزيز ثقافة التعايش والتسامح والتثاقف والتعارف بين أمم الأرض وشعوبها، لا وسيلة لفرض هيمنة ثقافية وقيمية بعينها، أو وسيلة لنشر عقائد وأديان على حساب عقائد وأديان أخرى. أفهم أن تحتل مفاهيم حقوق الإنسان بالمعنى الأممي المتعارف عليه مكانة متصدرة في الاهتمامات المصاحبة لعقد المونديال واستضافته وترتيباته، ولكن «الشطط» في تناول هذه المسألة، عادة ما يخفي أجندات فوقية واستعلائية، ليست بعيدة أبداً عن «نظرات عنصرية» مستبطنة في خطاب بعض الغرب.
في المقابل، لم أستسغ فكرة استدعاء كتيبة الاحتياط، من «الوعاظ» و»الدعاة» إلى ساحات المونديال، بهدف اقتناص لحظة الاجتماع البشري الكثيف، لنشر الدعوة وزيادة أعداد المسلمين. المسلمون لا يشكون قلةً في عددهم وعديدهم، لكي نفكر على هذا النحو، ولا وظيفة «تبشيرية» للمونديال على ما نعلم، ولا حاجة بنا، للاحتفاء على صفحات التواصل الاجتماعي بصور و»فيديوهات» النطق بالشهادتين، لا من أفراد ولا من جماعات من المشجعين الزائرين، لا نعرف إن هم أسلموا حقيقة، وبهذه السرعة القياسية، أم أن «وراء الأكمة ما وراءها».
ولنا أن نتخيل صورة معاكسة لما يُبث هذه الأيام، لو أن مونديال موسكو السابق جذب مسلمين إلى «الأرثوذكسية»، أو أن المونديال القادم في كندا والمكسيك والولايات المتحدة، سيشهد تحول لاعبين ومشجعين عرباً ومسلمين إلى «الكاثوليكية» أو «البروتستانتية»، ما الذي ستكون عليه ردود أفعالنا؟ وكيف سنتعامل مع «المؤامرة الكونية» على هوية الأمة وعقيدتها، جراء تعاقب «المونديالات»؟