لم يعد هناك أحد يرغب في استمرار تفرد حركة حماس بالبلديات في قطاع غزة، حتى أنَّ الكثيرين من أبناء الحركة باتوا يميلون إلى هذا الرأي؛ لأن ذلك أصبح يؤثر سلباً على الحاضنة الشعبية للحركة.
إنَّ النداءات ما زالت تتعالى بين النخب الفلسطينية في قطاع غزة مطالبة بإجراء الانتخابات البلدية، كونها أصبحت ليس فقط ضرورة لأثبات شرعية هذا الفصيل أو ذلك، ولكن لأن هذه الاستمرارية تعني فقدان هذه البلديات فرص الحصول على منح دولية لتطوير قدراتها على الارتقاء بعملها كقطاع خدمي، من خلال تحديث البنى التحتية ومستوى الخدمات، التي تراجعت وتهالكت وتضررت بسبب تكرار حالات الحرب والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وتقصِّد استهداف هذه المنشآت على وجه الخصوص.
أعرف أن حركة حماس وحكومتها التي تدير القطاع تدرك صعوبات الحصول على معونات دولية لتمويل مشاريع ومعدات أصبحت أكثر من ضرورية لتحسين حالات الخدمة التي تقدمها هذه البلديات.
إنَّ من نافلة القول، الإشارة إلى إن حركة حماس لن تقف اليوم حجر عثرة أمام إجراء هذه الانتخابات، وهي مستعدة أكثر من أي وقت مضى لدعم واسناد هذا التوجه، وضمان عمل لجنة الانتخابات المركزية في الإشراف على كل مجريات الأمور الخاصة بتلك العملية الديمقراطية، التي ستشارك بها كلُّ قطاعات الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
في جلسة جمعت شخصيات وازنة تنتمي لكلِّ التوجهات الفصائلية والأكاديمية وعددٍ من رجال المال والأعمال، تمَّ طرح هذا الموضوع للنقاش والتداول، وكان هناك أكثر من رأي، إذ إنَّ البعض ما زال يتخوف من اخفاق مثل هذا التجربة إن تمَّت؛ لاعتبارات لها علاقة بهيمنة فصيل بعينه على كلِّ مؤسسات القطاع بما في ذلك البلديات؛ كون طبيعة عمله وفعله المقاوم تتطلب "تجاوزات" قد تواجه باعتراضات أو رفض من قِبل السلطات البلدية، كما أن هناك تناقضات قد تنشأ بين سلطات الحكم المحلي الذي تتحكم به حركة حماس وصلاحيات عمل هذه البلديات المستقلة، والتي تتبع في مرجعيتها لتلك السلطات.
في الواقع، هذه مجرد تخوفات لها وجاهتها، ولكنها في ظل التوصل إلى صيغة عمل وتفاهمات وطنية يمكن التغلب على مثل هذه المخاوف المشروعة.
يقولون: إذا صدق العزم وضح السبيل، وفي سياق ما يتطلع إليه الجميع من أهمية خوض التجربة الديموقراطية، والتي سيؤدي نجاحها إلى مزيد من الثقة والتفاهم والوصول إلى تسويات سياسية تؤكد على الشراكة السياسية، في ظل توافقات وطنية يمكن أن تقفز فوق كل خطوط التابوهات لهذا الفصيل أو ذلك.
لا شكَّ لم يخلُّ النقاش عن طروحات لتعزيز نجاح التجربة، إذا ما توافق الفصيلين أو الفصائل على دخول الانتخابات ضمن "قائمة موحدة"، وإعطاء الفرصة لأن يكون الجميع حاضراً في إدارة هذه البلديات وبشخصيات تتمتع بالمهنية والوطنية والقبول لدى الجميع، بعيدةً عن اتهامات الفساد والمحسوبية، وهذه قضايا يمكن ضبطها والتفاهم حولها.
إنَّ هناك من يوافقني الرأي والنظر كخطوة على طريق الخلاص والحِراك الوطني، باقتراح ألا تشارك حركة حماس بكلِّ ثقلها الانتخابي، وأن تعطي الفرصة لإنجاح الآخرين، بحيث لا يزيد تمثيلها عن 20% من مجموع المرشحين، لضمان تصدر شخصيات مستقلة لها من السمعة الطيبة والمهنية ما يشكِّل إضافة لعمل هذه البلديات، وفرص انفتاحها على المجتمع الدولي، وإمكانية الوصول إلى صناديق المساعدات أو المشاريع التي اعتادت أن تخصصها الدول الأوروبية أو أمريكا لإخراج القطاع من حالة الضعف التي عليها مرافقها الخدمية، والميزانيات المتدنية التي لا تكفي لإقالة عثارها وتطوير إمكانياتها.
إن هناك بشريات تلوح في الأفق حول غاز غزة، وإمكانية تسييل بعضه في مصر للاستخدام الداخلي وتصدير الباقي للأسواق العالمية، بما يدُّر على السلطة مداخيل عالية سيكون لقطاع غزة نصيباً وافراً منها، وأن هذه الأموال ستذهب إلى النهوض بالمشاريع التنموية والإنسانية والصحية والتعليمية وتطوير البنى التحتية في القطاع.
بالطبع، هناك تحديات أمام إنجاز هذه المهمة، وتخليص حاجة السلطة في قطاع غزة من طلب المساعدات الإنسانية والإغاثية الدولية من هنا وهناك.
إن قطاع غزة بيئة واعدة للتطور، ويمكن بمثل هذه الأموال من "البترودولار" إخراج الناس من دائرة الفقر والمعاناة، وإعفاء الجوار العربي والإسلامي من سؤال "لله يا محسنين".
إن سياسة المراوحة في المكان، وغياب أية حلول أخرى لموضوع الانتخابات البلدية في قطاع غزة، فإنَّ ذلك سيؤدي إلى تكريس القطيعة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، واستمرار المسرح السياسي الفلسطيني في تقديم عرضه الهزلي "حكومتان لشعب بلا وطن" لأكثر من عقٍد ونصف العقد!!
إنَّ الانتخابات البلدية هي خطوة ضرورية لا بدَّ منها على طريق المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام، وستكون -بلا شك- عامل مساعد ومشجِّع لإنجاح الانتخابات التشريعية والرئاسية بعد ذلك.
أخيراً.. وبعد إعلان الجزائر للمِّ الشمل، والاتفاق على خطوات لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، تبدو الانتخابات البلدية -كعملية إجرائية- مهمة سهلة، ولكنَّ هذا يظلُّ مرتبطاً بالإرادة السياسية والتفاهم حول مشهد الحكم والسياسة، من حيث الشراكة والتفاهم الوطني.