حكومة نتنياهو والانقلاب الجديد بمنظومة الحكم في اسرائيل

تنزيل (12).jpg
حجم الخط

 بقلم : تيسير خالد

 

 

للبازار السياسي الجاري في دولة الاحتلال بداية ونهاية ، البداية كانت في انتخابات الكنيست ، أما النهاية ففي ‏تشكيل الحكومة . ما زال امام بنيامين نتنياهو بعض الوقت ، ولكنه في الطريق الى تشكيل حكومته بالتحالف مع ‏الاحزاب الحريدية ومع الاحزاب الفاشية في اسرائيل . نتنياهو أدار البازار بكل تعقيداته بمهارة ، تماما كما فعل ‏في عمليات التحضير لانتخابات الكنيست الخامس والعشرين . نتنياهو ليس يائير لابيد ، عينه وجهده وكل همه كان ‏يتركز على كسب الانتخابات بعد سنوات ثلاث من الفراغ السياسي ، ولهذا بذل اقصى جهده حتى لا تجري عملية ‏تشتيت الاصوات في معسكره اليميني . إذا كان ثمن النجاح والعودة الى شارع بلفور هو تعظيم قوة الصهيونية ‏الدينية كحركة فاشية يمينية متطرفة ، فلم لا ، فهو ميكافيلي من الطراز الأول . ‏
لابيد ، بخلاف نتنياهو ليس سياسيا محترفا ، هو جديد على الصنعة ، جديد على الاعيب السياسة ، التي يتقنها ‏نتنياهو . في التحضير للانتخابات لم يركز على تحالفات تسمح له بالامساك بأوراق ما بعد الانتخابات ، همه كان ‏حزبه ( يش عتيد – يوجد مستقبل ) فأضاع المستقبل واحتفظ بالحزب كقوة تحتل الموقع الثاني في المنظومة ‏السياسية الاسرائيلية . بدد المعسكر المناوئ لنتنياهو ، الأحزاب العربية تشظت الى ثلاثة قوائم يكافح كل منها ‏لاجتياز نسبة الحسم ، وكذا كان الحال مع ما يسمى أحزاب اليسار الصهيوني ، زعيمة حزب العمل ميراف ‏ميخائيلي رفضت الاتئتلاف مع حزب ميريتس بزعامة زهافا غلئون ، فاختفت ميريتس ولم يعد لها وجود في ‏الكنيست . أبعد من ذلك أضاع عددا من الفرص عندما رفض الموافقة على خفض نسبة الحسم في الانتخابات الى ‏‏2 في المئة، ولم يعر اهتماما لاتفاق حول فائض الأصوات، ولم يمرر "قانون المتهم" في الأسابيع الاولى لما كان ‏يسمى حكومة التغيير كما لم يعر اهتماما لكل ما من شأنه هزيمة الفساد والعنصرية المسيحانية ورفع التهديد عن ‏ما يسمى في دولة الاحتلال بالديمقراطية وتحصين الجهاز القضائي . ‏
وهكذا اصبحت الطريق معبدة لتحول واسع وعميق في النظام السياسي الاسرائيلي ، وهو تحول ينذر بانقلاب جديد ‏لا يقل أهمية في تداعياته عن الانقلاب الذي قاده مناحيم بيعن عام 1977 عندما فاز حزبه في انتخابات الكنيست ‏واقصى عن الحكم لسنوات طويلة حزب العمل الاسرائيلي . توجد أوجه شبه بين انقلاب الانتخابات الأخيرة وانقلاب ‏انتخابات العام 1977. في الحالة الاولى تم انتخاب قيادة يمينية واضحة من معسكر اليمين بزعامة مناحيم بيغن ‏ومن بعده اسحق شامير ، وضعت إسرائيل في مسار استراتيجي جديد ، للأردن ضفتان ، هذه لنا وتلك أيضا لنا ، ‏لينطلق في الضفة الغربية بما فيها القدس وحش الاستيطان والتهويد على نطاق واسع ، وفي الحالة الثانية تم ‏انتخاب قوة جديدة الى جانب الليكود هي الصهيونية الدينية بكل سماتها المسيانية والفاشية ، المعنية بتغييرات ‏أساسية ، داخلياً وخارجياً من شأنها أن تطرح صورة جديدة لدولة الاحتلال ، لا تختلف كثيرا عن الصورة التي ‏رسمها نتنياهو لدولته في كتابه ( مكان تحت الشمس ) بل تعززها بقوة دفع وحشية ، تطبيق السيادة على الضفة ‏والتشدد في العلاقة مع السلطة الفلسطينية ، ومكانة الدين في حياة دولة اليهود والعلاقة بين السلطات ومكانة ‏جهاز القضاء ، مع التركيز على تقليل تأثير المنظومة القضائية.‏
حكومة اسرائيل القادمة لن تكون حكومة يسيطر فيها الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو على المشهد السياسي ‏للسنوات الاربع القادمة . قد لا تستمر هذه الحكومة هذه المدة ، التي يحلم بها نتنياهو ، غير ان الامر لا يقف عند ‏حدود مدة ولايتها بل في الاساس على عناصر برنامجها سواء في العلاقة مع الداخل الاسرائيلي ام في العلاقة مع ‏الاراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967 والى جانب ذلك في العلاقة مع الخارج ، العلاقة مع الادارة الاميركية ‏ومع دول الجوار ، التي وقع معها نتنياهو ما يسمى اتفاقيات ابراهيم برعاية الولايات المتحة الأميركية . نتنياهو ‏سيكون عالقا في خياراته بين برنامج الليكود وبرنامج حلفائه الأكثر فاشية بن غفير وسموتريتش . وبصرف النظر ‏عن العلاقة مع الخارج وتعقيداتها فإن العلاقة مع الفلسطينيين سواء في اراضي 1948 ام في اراضي 1967 هي ‏التي من شأنها أن ترسم ابعاد الانقلاب الذي جاءت به انتخابات الكنيست الأخيرة . ‏
مع حزب بن غفير ، القوة اليهودية توصل نتنياهو الى تفاهمات جعلت من بن غفير حارسا لأطماع اسرائيل ‏التوسعية والعدوانية ، فقد فاز بوزارة الامن القومي بصلاحيات موسعة تجيز له إطلاق موجة من النشاطات ‏الاستيطانية بتمويل حكومي لا تقتصر تداعياتها على تسوية أوضاع ما يسمونه " الاستيطان الفتي ، وتحويل البؤر ‏الاستيطانية ، التي وضع ارئيل شارون قواعد تأسيسها عام 2001 وانتشرت في طول الضفة الغربية وعرضها ‏كالفطر ، رغم مطالبة الرباعية الدولية في خطة خارطة طريقها الى تفكيكيكها ، الى مستوطنات شرعية وفق ‏قوانين الاحتلال تتمتع كل منها بحكم محلي وترتبط بشبكة طرق ومياه وكهرباء وبمخصصات كبيرة وربما بتعيين ‏حاخام في كل منها ، ما يدفع نتنياهو الى الزاوية بين ضم زاحف فعلي يجري دون اعلان كما يرغب وبين ضم ‏على طريقة بن غفير وسموتريتش يغلق الطريق تماما امام تسوية سياسية وتشرع الابواب امام دولة ابارتهايد ‏ثنائية القومية يخشاها بنيامين نتنياهو . بن غفير في وزارة الامن القومي الجديدة سيمون الحاكم الفعلي للضفة ‏الغربية ، رئيس حكومة موازية لما يسمى الادارة المدنية معززا بصلاحيات واسعة ورئيس اركان ليس فقط ‏للشرطة بل ولحرس الحدود والحرس الوطني ، الذي قررت حكومة يئير لبيد المنصرفة تأسيسه كميليشيا رسمية ‏للمساعدة ف توفير الامن للمستوطنات والمستوطنين . ‏
الحالة اكثر تعقيدا مع بتسلئيل سموتريتش ، زعيم الصهيونية الدينية ، الذي تتراوح مطالبه بين تولي وزارة الأمن ‏‏( الدفاع ) أو وزارة المالية بصلاحيات موسعة تغطي اهدافه في تعميق الاحتلال والاستيطان معا . وزارة الدفاع ‏هي السقف المرتفع لزعيم الصهيونية الدينية ، وهو يدرك ان ذلك غير ممكن لاعتبارات داخلية اسرائيلية ‏واعتبارات خارجية تتصل في الاصل بموقف الادارة الاميركية . ويدرك سموتريتش ان وزارة الدفاع ليست ميدانا ‏لممارسة الهوايات ، فهو كوزير للدفاع لا يقرر مثلا متى تقصف طائرات سلاح الجو في سورية او البنية التحتية ‏لمحطات الطاقة النووية الايرانية ، فهذه الأمور قرارها ابعد ما يكون عن شأن داخلي اسرائيلي ، ولكن حتى لو ‏كانت كذلك فإن قرارها ليس منوطا بوزير الدفاع وحده فهناك رئيس الاركان وقادة الجيش وهناك قادة الاجهزة ‏الأمنية كافة وأخيرا قرار رئيس الحكومة . هو ليس ابن المؤسسة العسكرية ، ليس رابين او بن اليعازر او ‏غانتس ، هو في احسن الاحوال نسخة عن التاعس عمير بيريتس ، ولهذا كان ينظر الى هذه الوزارة باعتبارها ‏المؤسسة التي من خلالها يستطيع ان يدفع من بين امور متعددة في اتجاه تعميق الاحتلال والاستيطان من خلال ‏السيطرة على الإدارة المدنية ومحافل أخرى، وهو في ذلك لا يختلف عن بن غفير سوى بالدرجة لإ فهو يريد كذلك ‏أن يكون رئيس حكومة "يهودا" و"السامرة‎".‎‏ يقرر ما الذي يجب ان تكون الامور عليه في حومش، وفي أفيتار، ‏وفي الخان الأحمر وفي باقي باقي البؤر الاستيطانية فضلا عن المستوطنات . وعندما يقرر سموتريتش النزول عن ‏شجرة وزارة الدفاع والاكتفاء بوزارة المالية مثلا فلا يفوته المطالبة بتوسيع صلاحيات وزارته لتغطي مجالات ‏عملها تلك الصلاحيات المنوطة بما يسمى الادارة المدنية في الضفة الغربية او يهودا والسامرة وفق مصطلحات ‏الاحتلال . وفوق ذلك كله تتقاطع رؤية سموتريتش مع رؤية الأحزاب الحريدية في قضايا داخلية كمضاعفة ‏الموازنات للمدارس الدينية أو تحويل بعض صلاحيات السلطة القضائية الى الحاخامية الرئيسية لتقرر في شؤون ‏تتجاوز قوانين العائلة في اتجاه تحويل إسرائيل الى دولة أصولية ‏
وهكذا فإن نتنياهو يجد نفسه عالقا في تعقيدات شروط التحالف لإقامة حكومة يمينية متطرفة للقوى الفاشية فيها ‏وزن كبير في تقرير سياستها . ليس هذا فحسب ، بل انة نتنياهو بعد الفوز في الانتخابات وجد نفسه عالقا في ‏تطورات على المستوى الاقليمي والدولي ، من شأنها أن تدفعه لاختيار اهون الشرور . كان رهانه للعبور الى ‏الضفة الاخرى بنجاح على الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة الاميركية . حساب الحقل هنا لم تتطابق مع ‏حساب البيدر ، فالموجة الحمراء التي توقعتها الاستطلاعات الأميركية وراهن عليها لم تتحقق، فالحزب ‏الديمقراطي فقد الاغلبية في مجلس النواب غير انه لم يفقد الاغلبية في مجلس الشيوخ ، الأمر الذي يدفع نتنياهو ‏للتفكير مليا في الذهاب بعيدا في الانقلاب الثاني الذي جاءت به الانتخابات الاسرائيلية الأخيرة بخطوات اسرائيلية ‏احادية الجانب يدعو لها شركاؤه الفاشيون الجد في الائتلاف الحكومي . فضلا عن ذلك فإن نتنياهو يزعم ان ‏اتفاقيات ابراهيم مع عدد من الدول العربية تشكل ركنا اساسيا من توجهاته وارثه السياسي لتجاوز البحث عن ‏تسوية مع الجانب الفلسطيني ، وهي بهذا المعنى تزيد من تعقيدات المشهد ، التي يجب عليه ان يراعيها في ‏التسويات التي يبدي استعداده للدخول فيها واختيار اهون الشرور في اتفاقياته الاتلافية لتشكل حكومة هي الأكثر ‏يمينية وفاشية في تاريخ دولته . ‏
الآن ، وبصرف النظر عن الصراع حول توزيع الحقائب الوزارية والمناصب وما يرافقها من صلاحيات ، فمن ‏الواضح ان دولة اسرائيل بدأت السير في طريق مختلف ، فصورة الوضع في اسرائيل تتبلور اكثر فأكثر عن دولة ‏تقترب من نقطة التحول الى دولة شريعة إثنوقراطية تتوعد الفلسطينيين سكان البلاد الأصليين باعتبارهم أغيار ‏بالمفاهيم التلمودية . مثل هذه الدولة لا تشكل خطرا على الفلسطينيين وحدهم بقدر ما تشكل خطرا على الامن ‏والسلم الاقليمي والدولي ، ما بات يملي على الجانب الفلسطيني قبل غيره إعادة النظر بشكل جوهري في مواقفه ‏من هذه الدولة ومن الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها معها بدءا باتفاق غزة – اريحا اولا عام 1993 . خيارات ‏الجانب الفلسطيني هنا يجب ان تبقى مفتوحة في مواجهة تمتد على مساحة فلسطين التاريخية ولا تستثني التحرك ‏النشط والفعال على الساحات الاقليمية والدولية . ‏
في هذا السياق تأتي خطوة التوجه الى الجمعية العمومية للأمم المتحدة بالطلب من محكمة العدل الدولية تقديم ‏فتوى او رأيا استشاريا يحدد وجهة نظرها بشأن التداعيات المترتبة على تحول الاحتلال الاسرائيلي من احتلال ‏عسكري مؤقت الى احتلال استيطاني دائم الاحتلال في الضفة الغربية ، كخطوة في الاتجاه الصحيح تعزز المطلب ‏الفلسطيني الى محكمة الجنايات الدولية بفتح تحقيق جنائي في جرائم الحرب التي ترتكبها قوات الاحتلال وقطعان ‏المستوطنين ضد المواطنين الفلسطينيين تحت الاحتلال وممتلكاتهم . ‏
ليس هذا فحسب ، فسياق التطورات الجارية تضع الفلسطينيين ليس فقط في الضفة الغربية بما فيها القدس وفي ‏قطاع غزة ، بل وفي فلسطين التاريخية كما في الشتات أمام مهمات جديدة ومختلفة عن سابقاتها وخاصة بعد ان ‏تحول خطاب الاستيطان الاستعماري والكراهية والترانسفير والتطهير العرقي الى خطاب رسمي في دولة اسرائيل ‏، ما بات يتطلب العودة الى قرارات الاجماع الوطني والبحث الجاد والمسئول في آليات ترجمتها الى سياسة رسمية ‏لمنظمة التحرير الفلسطينية وهيئاتها ومؤسساتها والتفكير في الوقت نفسه بتشكيل جبهة قومية متحدة تضم جميع ‏الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني وفي المناطق الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967 وفي الشتات ، جبهة تكون ‏مفتوحة لمشاركة جميع القوى والشخصيات التقدمية اليهودية في دولة اسرائيل ، على محدوديتها بحكم محدودية ‏الوضع الانساني في هذه الدولة ، تطرح على جدول أعمالها حقهم في تقرير المصير بمركباته الثلاث : حقوق ‏قومية ثابته وحقوق مواطنة ومساواة لأبناء الشعب الفلسطيني في الاراضي المحتلة عام 1948 وحقوق قومية ‏ثابته في الاستقلال والتحرر من الاحتلال والاستيطان في الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وحقوق قومية ‏ثابتة في العودة للاجئين الفلسطينيين الذين هجروا من ديارهم وممتلكاتهم بالقوة العسكرية الغاشمة . وتبقى على ‏أية حال قضية القضايا ، التي يتوقف على حلها فرص النهوض بهذه المهمات الجسيمة ، ألا وهي فتح حوار وطني ‏فلسطيني يستكمل ما كان في الجزائر قبل أسابيع من أجل إنها الانقسام ، الذي أفسد الحياة السياسية الفلسطينية ‏وقدم خدمة لا تقدر بثمن للاحتلال . ‏