أُفضّل، أن أقطع المسافة الواصلة بين نقاط التفتيش الإسرائيلية والفلسطينية مشياً على الأقدام. لم أرغب في صعود السيارة الصغيرة المسماة «تُكتُك»، ستذكرني بوعد قديم قطعته للشهيد خالد عدم استخدام شبيهتها المسماة «الطرطيرة».
كنت قد نجوت من حادث غرق محقق لدى نزولها في نفق امتلأ بأمطار دمشق. أقطع الشارع الطويل المسيَّج من الجانبين، حديد لا يستثني الا الهواء من المرور، ستمر من أمامي سيارة «التُكتك» بضع مرات قبل أن تنتهي من نقل أعضاء الوفد النسائي القادم من المحافظات الشمالية.
الخروج من الحمًام ليس كدخوله، رأيت البرهان في غزة؛ بأم عيني. في كل خطوة بين نقاط التفتيش نشتبك، وجها لوجه، مع إجراءات أمنية محكمة ذات صلة بتكريس الحكاية، دولة الاحتلال في خطر وجودي: الفلسطيني المفخخ، حامل زجاجة المولوتوف، السكاكين والمقصات، راشقي الحجارة.
الخروج من غزة ليس كدخولها، إجراءات الخروج أكثر صرامة، تذكرني بأفلام عن نظارة «جيمس بوند» التي تجرِّد من يواجهه من الملابس.
سأشعر كأنني في غرفة العناية المشددة بأحد المستشفيات المتخصصة بالأورام السرطانية. الأبواب الحديدية والإلكترونية تسلِّمنا إلى غرفة الفحص بالأشعة.
هناك، تُخترق ملابسنا لتكشف كل شيء وأي شيء، ليست مخصصة للمعادن فقط، بل للكشف عن المواد البلاستيكية والنوايا والضمائر المختبئة تحت الملابس. يتم عزلنا عن حقائبنا، يُحكم عليها السير في صوان زجاجية على أحزمة متحركة إلى مكان استلامها.
يمر وقت ريثما نلتقي معها مجدداً، ما أدرانا ما الذي يفعلونه بها، فجأة يغلق النظام ويتجمد كل شيء، لقد عُثر على مقص في أحد الصواني! انهم يتلصصون على أجسادنا، يتم وضعنا تحت الأشعة، لا نعلم شيئا عن طبيعة ما يتم تعريضنا له، تصوير طبقي ومسح «ليزري»، للدم والخلايا واللحم والعظم، للتأكد من سلامة طويتنا ونوايانا. نحن أمام شاشاتهم كما خلقنا الله. يردد البعض لنا رواية الاحتلال، «أنهم يموِّهون الوجوه ويجعلون صورة الجسد ضبابية»،
«لا يبتغون اختلاس النظر»، بل ما يختبئ تحت الملابس؛ لا علاقة لهم البتة بالجسم البشري. يرددون على مسامعنا مراعاتهم للقضية الأخلاقية. انهم يستخفون بعقولنا، تركيزهم على القضية الأخلاقية لجعلنا نركز الاهتمام عليها دون غيرها، تبهيت طبيعة وأسرار الأجهزة الخارقة ومخاطرها الصحية، وكذلك استبعاد القضية الحقوقية، حقنا في الموافقة على الدخول في النظام الأمني الغامض وانعكاساته المستقبلية.
للتذكير، لقد اعترفت إسرائيل بضرر الأجهزة على الصحة العامة بدليل أنها قامت بإزالة الأجهزة التي تم تركيبها على المعابر الواصلة مع الأردن، كما تم إزالة الكاميرات الغامضة على حاجز حوارة على مدخل مدينة نابلس، بسبب إثارة غموضها على نطاق واسع. في غزة لا أحد يثير أسرار غرفة الأشعة، ولا حتى إثارتها على طريقة الزوبعة في الفنجان. يعمي أنظارنا الحصول على تصاريح بالاتجاهين، ولدى إثارة القضية لا يتم متابعتها حتى نهاياتها والوصول إلى أهدافها. دخول غزة ليس كالخروج منها، تنتهي الرحلة وهي أبعد ما تكون شبها بالرحلة، نذهب بأسئلة لا تجد إجاباتها، ونعود وقد زادت حمولتنا من الأسئلة والملفات المعقدة، التلصص على أجسادنا وكشفها أمام شاشاتهم. تستمر الملفات بالتضخم ويبقى الحال على ما هو عليه. الخروج من غزة ودخولها أحد دروب الآلام الفلسطينية المجهَّز بأحدث أجهزة الاختراق، غزة محاصرة بالمعابر من جميع الاتجاهات؛ وحلها لا يتحقق بتخفيف المعاناة، بل التعامل معها كأحد قضايا الضمير الإنساني الحيّ.