الارتباك الغربي من ذروةٍ إلى أُخرى!

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

في خطوةٍ تعكس مدى ما وصل إليه الغرب من فقد الوزن والاتزان، وما بات يُعانيه هذا الغرب من توهان وضياع للبوصلة في كل الاتجاهات "استقرّ" الرأي أخيراً وبعد عدة محاولات فاشلة عند تحديد سعر النفط الروسي بستّين دولاراً للبرميل في خطوةٍ وصفت من قبل الاتحاد الأوروبي بأنها جاءت "لمنع" روسيا من توظيف المزيد من الموارد في العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا!
لم يقل لنا الغرب الأوروبي كيف ستؤثّر هذه الخطوة على "منع" روسيا من استخدام مواردها النفطية في العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، ولم يفهم أو يتفهّم أحد يُعتدّ برأيه في هذا العالم كيف سيتمّ ذلك، ومن خلال أية آليات اقتصادية أو أدوات مالية من أيّ نوع.
وما قيمة هذه القرارات الاقتصادية والمالية إذا كانت روسيا نفسها قد أعلنت أنها لن تبيع النفط لأي بلدٍ سيطبّق هذا القرار، أو يعمل على فرضه في إطار العلاقات الأوروبية الروسية؟
ثم كيف في ضوء ما تقدّم سيؤثّر نقص "العرض" من النفط الروسي في الأسواق الأوروبية على حالة "الطلب"، وبالتالي على الأسعار؟
أقصد كيف سيتم كبح الأسعار عند معدّلات معينة إذا كان الطرف المورّد نفسه ليس مضطراً لبيع نفطه للدول الأوروبية؟
وهل بالإمكان تعويض النفط الروسي بهذه البساطة وفي نفس الوقت ضبط ارتفاع السعر في الأسواق العالمية؟
تتصرّف أوروبا وكأنّ شعوبها تعيش في أعلى درجات الرغد والنعيم، بل وكأنها هي من تتحكّم بالقوانين الاقتصادية التي تحكم معادلات العرض والطلب على الأسواق العالمية، وعلى السلع الاستراتيجية في هذه الأسواق علماً بأنّ أوروبا بالذات وتحديداً هي الجهة الأكثر افتقاراً لهذه السلع، والأقلّ قدرة على "التحكّم".. بتلك المعادلات، وهي الأكثر تضرراً من الفوضى التي يمكن أن تنجم عن القرارات التي "استكملت" اتخاذها!
لو أن النفط الروسي يعاني من الكساد مثلاً لأمكن فهم الأبعاد الاقتصادية والمالية لقرار تحديد سقف الأسعار للنفط الروسي.
ولو كانت الأسواق مغلقة أمام شحنات النفط الروسي، وخصوصاً الأسواق العملاقة لأمكن تفهّم الأبعاد التي فسّرت بها أوروبا قراراتها.
أما وأن روسيا نفسها تعلن أنها لن تبيع النفط لأوروبا وفق شروط القرار، فإن القرار الأوروبي يتحول في الواقع إلى نكتة سياسية، وإلى قرار "رمزي" ليس له أيّ قيمةٍ حقيقية جدّية أو مؤثّرة في عالم الاقتصاد كلّه.
أوروبا وقبل أن تؤخذ القرارات كانت تعرف أكثر من أيّ طرفٍ آخر أن الأسواق الصينية والهندية، وأخرى دولية وكبيرة جاهزة لاستقبال النفط الروسي، وأوروبا تعرف أن لا تأثير اقتصادياً أو مالياً لقراراتها، بل وتعرف أنها هي بالذات من سيدفع الفاتورة الأكبر لهذه القرارات، لأن السعر العالمي سيصل ليستقرّ عند مئة دولار للبرميل بالحدود الدنيا، وفي أحسن حالات التوقع، وهو الأمر الذي يعني أنها ــ أي أوروبا ــ تطلق النار على أقدامها من جديد!
أكثر الاقتصاديين قرباً والتصاقاً بأوروبا لم يروا في هذه القرارات أكثر من خطوةٍ "رمزية" لكي تثبت لنفسها أنها ما زالت قادرة على اتخاذ قرارات مشتركة، حتى ولو أنها مفرغة من كل المضامين التي تتحدث عنها.
أي أن القرار سياسي ودعائي واستعراضي، وهو أبعد ما يكون عن أن يكون فاعلاً أو مؤثّراً.
حالة الارتباك بلغت أوجها.
أصوات بولندية رسمية باتت تتحدث علناً عن "إخضاع" أوروبا للسطوة الألمانية، وأصوات هنغارية تتحدث عن أن الاتحاد الأوروبي يجرّ الشعوب الأوروبية إلى أزماتٍ مدمّرة، والمؤسسات الدولية تتحدث عن ركودٍ اقتصادي حاد قادم بصورةٍ خطيرة بدءاً من الشتاء.
فرنسا تحتجّ بشدة وبحدة على السياسات الأميركية التي تلحق بأوروبا خسائر تجارية فادحة، ومؤسسات أخرى تتحدث عن "مؤامرة" أميركية على الاقتصاد الأوروبي للوصول به إلى حافّة الانهيار، وإلى هجرة وهروب الرساميل إلى الولايات المتحدة وإلى كندا، وبما يحوّل الركود الاقتصادي في أوروبا إلى كارثة ويضعها على أبواب مرحلة مشابهة لمرحلة "الكساد العظيم" إذا لم يتم وقف هذا التدهور عاجلاً!
أما في الغرف المغلقة فيتمّ الحديث بصورة لافتة عن ضرورة "الإسراع" في البحث عن حل سياسي سريع، ربما وصل بالرئيس الفرنسي مانويل ماكرون للقول بضرورة أن تؤخذ المصالح الأمنية الروسية بعين الاعتبار حول طبيعة الحل القادم؟!
وعلى الصعيد "العسكري" تبخّرت "الانتصارات" العظيمة للقوات الأوكرانية، والتحوّل الآن في سير المعارك يترافق مع التدمير المتواصل لكل البنية التحتية الأوكرانية التي تتعلق بموارد الطاقة المرتبطة بالأعمال العسكرية، وخصوصاً تلك التي تتعلق بتزويد "حلف الناتو" لأوكرانيا، وبات هو المظهر الأهمّ في سير تلك المعارك.
أي أن الغرب فقد الأمل في المراهنة على "صمودٍ" أكبر لأوكرانيا، وفقد الأمل "بتصدّع" روسيا، وفقد الأمل بتماسك الغرب أكثر مما تماسك حتى الآن، وفقد الأمل بأن "تُراعي" أميركا الحالة البائسة التي وصلت إليها أوروبا، وفقد الأمل بفضّ الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين، أو حتى بتعكير صفو العلاقات بين روسيا والهند، وبين روسيا ودول كثيرة وكبيرة في العالم بما في ذلك الدول النفطية والدول الغنية في الإقليم العربي.
كل المراهنات تتطاير واحدة تلو الأخرى، ولم يتبقّ سوى "اللجوء" إلى قرارات "سياسية لا تحمل في طيّاتها أبعد من خداعِ الشعوب الأوروبية، بل ومن خداع النفس، أيضاً".
التخبُّط والارتباك الغربي بات يتطلب الإجابة عن سؤال حول حقيقة العلاقات الأميركية الأوروبية من زوايا متعدّدة.
والسؤال المركزي على هذا المستوى ــ كما أرى ــ : هل أن هذه العلاقة هي علاقة تحالف أو سيطرة وخضوع؟
لا أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال سهلة أو بسيطة، أو حتى ممكنة من دون انتظار ما ستؤول إليه هذه العلاقة في ضوء تطور الأحداث والمتغيّرات القادمة لا محالة.
ويبدو أن التشابكات والمصالح بين الشركات الأميركية والأوروبية العملاقة لا تسمح برسم خارطة اقتصادية واضحة يمكن الاستناد إليها في قراءة موثوقة لهذه العلاقة.
لكن الأمر المؤكد أن الولايات المتحدة كان تقف خلف خروج بريطانيا من الاتحاد، وهي التي بادرت بالعدوان على روسيا من خلال دميتها التي تمثلت بأوكرانيا، خصوصاً بعد الانقلاب الذي قادته ضد النظام الديمقراطي في العام 2014، واستطاعت أن تجرّ أوروبا خلفها، والمؤكد، أيضاً، أن أكبر وأكثر ما كان يؤرّقها هو الاعتمادية الأوروبية على موارد الطاقة الروسية، وخصوصاً خط (ستريم ــ 2) إلى ألمانيا، وكانت تخشى أن تصبح العلاقات الألمانية الروسية أقوى بكثير مما كانت عليه، وهو الأمر الذي رأت فيه "تهديداً" للمصالح الاستراتيجية الأميركية.
إذا كان كل هذا صحيحاً ــ وهو صحيح ــ فإن الاستنتاج المنطقي يقول إن "الطُغَم" المالية والاقتصادية الأوروبية ليست سوى "توابع" سياسية للولايات المتحدة، وأن هذه "الطُغَم" هي أساساً خاضعة لسيطرة الولايات المتحدة، وهي لن تتمرّد على السياسات الأميركية (المعادية لمصالح شعوبها) إلّا إذا خنقتها تلك السياسات الأميركية، ووصلت بها الأمور إلى حافّة الهاوية، أو الهاوية نفسها.
أقصد، ستدافع أوروبا بالمجمل عن "خضوعها" وعن سيطرة الولايات المتحدة على أسواقها وقراراتها، وعلى تسليح جيوشها، وعلى "أمنها" إلى أن يأتي يوم الإطاحة بهذه "الطُغَم"، ويوم إعادة هندسة الواقع السياسي في أوروبا كلّها بالتزامن مع متغيرات دولية هي في طور التبلور.
ولهذا فإنّ حالة الإرباك والارتباك ليست سوى التعبير الحقيقي عن حالة الشدّ والجذب في طبيعة العلاقة المرتبكة أصلاً بين ضرورات التحالف وأعباء الخضوع وأثمانه الاجتماعية والاقتصادية الباهظة.