ما زلنا في معرض التعليق على الجاري من الأحداث. ثمة أكثر من طريقة لقراءة الواقع. ومع ذلك، لا ينبغي التردد في الكلام عن بعض القراءات كوصفة مضمونة لخداع الذات. في معرض التدليل على أمر كهذا، أسوق مثلين:
أولاً، نتوقّف عند حادثة وقعت صباح الأحد الماضي، وتمثّلت في اجتياز سيارة حاجزاً للتفتيش على مدخل مطار بن غوريون، وإجراءات الوقاية التي اتخذتها سلطة المطار، بما فيها دعوة المسافرين إلى مغادرة بعض القاعات، ودعوات للاستلقاء على الأرض.
من الواضح، طبعاً، أن السيارة، التي لم تلتزم بأمر التوقّف، أثارت انتباه الجهات الموكلة بأمن المطار من الخارج والداخل، وأوحت للمعنيين باحتمال عملية مسلّحة، فقاموا بتفعيل سيناريو مُسبق حول كيفية التعامل مع طارئ من هذا النوع.
ولكن وكالة محلية قرأت الحادثة بطريقة مختلفة تماماً، وقدّمت للفيديو الذي يصوّر تفعيل سيناريو الطوارئ في المطار على النحو التالي: "شاهد ـ رعب المستوطنين بعد اختراق فلسطيني لمطار بن غوريون". وذكرت في التفاصيل، مع التوابل البلاغية المألوفة، أن السيارة مسروقة، يقودها فلسطيني، ويبدو أنه ذهب في اتجاه المطار عن طريق الخطأ.
وإذا تغاضينا عمّا في العنوان من بلاغة غير مبررة، واجتهاد غير مبرر أيضاً في كتابة اسم بن غوريون. فهل في الكلام عن المسافرين بوصفهم مستوطنين ما يمت بصلة إلى الحقيقة؟ وهل في الفيديو ما يبرر الكلام عن الذعر، أم عن شيء آخر هو كفاءة تفعيل السيناريو؟ وهل يختلف إحساس بقية الكائنات في الكون عن المسافرين في مطار بن غوريون إذا قيل لهم أن ثمة هجوماً محتملاً، وأن عليهم الجلوس، أو الاستلقاء على الأرض؟ وما البطولي في حماقة البقاء واقفاً إذا قيل لك إن هجوماً سيقع الآن، وعليك الاحتماء بالأرض؟
الخلاصة: في العنوان ما يمثّل خداعاً للذات. وبدلاً من الكلام الفاضي عن "رعب المستوطنين"، يجب الكلام عن اليقظة الأمنية، وسيناريوهات الطوارئ، التي تعتبر مسؤولة عن تقليل حجم الخسائر لدى الإسرائيليين. إذا كنّا نسعى لهزيمتهم فعلينا الاعتراف بنقاط قوتهم، لا التقليل منها، والاستهانة بها.
ثانياً، على هامش زيارة الرئيس الإسرائيلي إلى البحرين، والإمارات، تناقلت صحف ومواقع مختلفة، بقدر مدهش من النوستالجيا القومية تظاهرات "البحرينيين" الغاضبة، وبياناتهم المنددة بالإسرائيلي الضيف. وقد استنتج أشخاص، من مشارب شتى، وبمفردات ساخنة، أحياناً، أن التظاهرات تدل على فشل السلام الإبراهيمي، لأن "الشعوب" العربية، خلافاً لحكّامها، ترفض "التطبيع"، وتقف مع فلسطين.
وهذا، أيضاً، خداع للذات، ربما نجم عن تفكير رغبي، وربما عن وضع "الشعوب" العربية كلها في سلة واحدة، وعن الحنين إلى رومانسية حضور فلسطين في خطاب القومية العربية (وهي ظاهرة حضرية أولاً وأخيراً).
التفكير الرغبي طريقة لمقاومة اليأس، بالتأكيد، ولكنها غير مضمونة النتائج، ومرشحة لخيبات أمل متلاحقة. والمشكلة هي وضع "الشعوب العربية" في سلة واحدة. ثمة فروقات جوهرية بين المناطق الحضرية والحضارية للعالم العربي، وهوامشه الصحراوية.
وعلى مقلب آخر، من الواضح أن النوستالجيا تحرّض على شطب تفاصيل أساسية من حين إلى آخر. جمعية الوفاق هي محرّك التظاهرات، ومصدر البيانات، المعادية للرئيس الإسرائيلي، وعيسى قاسم، الذي ذكرت الأنباء تنديده بالزيارة هو زعيم الشيعة البحرينيين (يذكر المصابون بالنوستالجيا القومية اسمه دون لقب آية الله على سبيل التمويه). وقد سبق تجريدة من الجنسية البحرينية قبل ست سنوات، ناهيك عن اعتقالات وسجون مختلفة.
إذا أردنا التحليل بعقل بارد، فلنقل إن السلام الإبراهيمي سينتهي عندما يُعلن الإبراهيميون أنفسهم نهايته بطريقة رسمية (وهذا لن يحدث، لأن مصيرهم في يد حُماتهم الإسرائيليين). هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن التنديد بالسلام الإبراهيمي في بلدان الخليج، على نحو خاص، يتأثر بالتحيّزات الطائفية من ناحية، ووجود الحقل السياسي من ناحية ثانية. ففي بعض البلدان لا وجود، ولا شرعية، لحقل كهذا، ولا حتى مطالبة من جانب الناس بوجوده.
تنطوي معارضات الخليج على أكثر من إشكالية: تتجلى فيها تمركزات طائفية، ومعادلها السني (إخوان الكويت، مثلاً) يعادي "التطبيع" لأسباب دينية، في المقام الأوّل، لا قومية. لا وجود لتمركزات قومية، عابرة للدين والطائفة، في بلدان "مجلس التعاون الخليجي"، باستثناء عُمان، والكويت، والبحرين. ولكن جيل القوميين الأوائل غادر الحياة، أو أوشك على المغادرة. وقد تضافر ما يُعرف بالصحوة الإسلامية، مع طفرة النفط، في الإطاحة بالقومية والقوميين في تلك البلاد، ويصعب العثور على أبناء وأحفاد للقوميين الأوائل.
تكلمنا عن إشكالية هذا النوع من المعارضة: دعم الفلسطينيين لأسباب دينية لن يفيدهم (يعزز ميولهم الأصولية، ويُبعدهم عن أنصار محتملين في كل مكان آخر، خاصة في الغرب، ولا يُسهم في تفسير الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي كحركة تحرير قومية معادية للكولونيالية).
وثمة إشكالية أُخرى تتمثل في أن هذا النوع من المعارضة يُجابَه بتمركزات شعبية حقيقية حول النظام في البلدان المذكورة. بمعنى أن الرافعة الاجتماعية للأنظمة في بلدان السلام الإبراهيمي (في العلن والسر) عريضة وقوية بما يكفي، ولا تشعر بالعداء للنظام لأنه طبّع أو على وشك التطبيع مع إسرائيل.
والصحيح أن ثمة إمكانية للعثور على إعجاب خفي في الخليج، من جانب أوساط من الطبقة الوسطى، وبين رجال الأعمال، بإسرائيل. وأحياناً، يتجلى الأمر، وقد تجلى، فعلاً، كعودة صاخبة للمكبوت، كما في حالة الإمارات.
الخلاصة: لا فائدة من خداع الذات بالبلاغة (على طريقة أشبعتهم شتماً وفازوا بالإبل). الفوز يتحقق بالعمل على طريقة النمل، وتسمية الأشياء بأسمائها.