كثيرة هي المؤتمرات التي تناولت قضية "المعاناة الإنسانية" التي يمرُّ بها قطاع غزة، ولكنَّ الحقيقة التي لا تغيب شمسها أن القضية تتجاوز كلَّ هذه الحدود، إذ إنَّ جوهر المأساة والجُرح الفلسطيني سياسي بالدرجة الأولى.
نعم؛ "غزة بحاجة إلى أكثر من مساعدات إنسانية"، كان هذا عنوان المؤتمر الذي عقدته – في لفتةٍ رائعة تستحق الشكر- اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، بهدف إلقاء الضوء على ما يعانيه قطاع غزة من مشاكل وهموم تتجاوز كونها إنسانية فقط، إذ أنَّ السياسة تلعب دوراً أكبر فيما آلت إليه أحوال القطاع من مآسي وأزمات، طالت الكبير والصغير والغني والفقير، جراء الحصار والاحتلال.
لقد كرِّست اللجنة الدولية للصليب ميزانية مالية خاصة للقيام بما تسمح به هذه الإمكانيات من أعمال إنسانية داخل قطاع غزة. ولكنَّ الذي يعمل في الميدان ويتعامل مع الناس ومتطلبات أمنهم واستقرارهم داخل القطاع يدرك -بسهولة - أن المسألة أكبر من مجرد مساعدات إنسانية، فالمعتقلات تضج بآلاف السجناء، ونسب البطالة بلغت عنان السماء، وفي المشافي تقلَّصت أو انعدمت مخزونات الدواء، وتكاثرت حول من ركبوا "قوارب الموت" الأشلاء، وعليه غدت مسألة المعاناة في قطاع غزة تستوجب أكثر من صرخة ونداء.
إنَّ ما أشار إليه السيد فابريسيو كربوني؛ مدير عمليات الشرق الأوسط في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، قد أصاب كبد الحقيقة، حيث قام بتبهيت الكثير مما يدور في المحافل الغربية من نقاشات حول القضية الفلسطينية، باعتبار جوانبها الإنسانية فقط، قائلاً: "أعتقد أن المسألة التي يتوجب أن يدور حولها الجدل والنفاش ليست هي الوضع الإنساني، بل هي البحث عن حلٍّ سياسي، وأن ما نواجهه -حقيقة- في الأراضي المحتلة هو الافتقار إلى عملية سياسية ذات مصداقية".
ولعل هذا ما أراد المؤتمر التأكيد عليه، من خلال الكلمات ومداخلات الحضور، بالقول: إنَّ معاناة قطاع غزة وإن بدت لدى الكثيرين بأنها قضيةٌ إنسانيةٌ بامتياز، إلا أن واقع المظلومية السياسية التي تمر بها القضية الفلسطينية هو الأساس.
إنَّ المشاهد التي استحضرتها اللجنة الدولية لوجوه المأساة الإنسانية من المزارعين والصيادين والمرضى والمصابين والعاطلين عن العمل ومن قطاعي المرأة والشباب في قطاع غزة تشي كلها بأن ظاهر الأمر إنساني، ولكنَّ باطنه -بلا شك- سياسي.
بالطبع، لا يمكننا الحديث عن حجم المساعدات الإغاثية والتعليمية والصحية وأشكال الدعم الإنساني الذي تمَّ تقديمه لهؤلاء اللاجئين الفلسطينيين لأكثر من سبعينَ سنةٍ، إلا أنه وبلُغة الأرقام المالية قد تجاوز مئات المليارات من الدولارات. ومع ذلك، لم تنتهِ مشاهد أو مشهدية المواجهات المسلحة، ولم تتوقف صور المجازر الدامية، ولم ينجح أحدٌ في وضع حدٍّ للصراع، إذ ما تزال المعارك مفتوحة، والحربُ لم تَضع أوزارها بعد، ولا يظهر في الأفق إمكانية حدوث ذلك في الزمن القريب.
نعم؛ الجوانب الإنسانية ما تزال هي الدافع لحيوية المجتمع الدولي في دعم وإسناد الحملات الإغاثية، واعتماد المخصصات المالية، وخاصة للمؤسسات التي تمَّ إنشاؤها مع بداية النكبة لتلبية الاحتياجات الحياتية لمخيمات اللجوء في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات، مثل وكالة (الأونروا)، وهي ما تزال تؤدِّي رسالتها الإنسانية في إغاثة وتشغيل اللاجئين، وتسعى لتوفير متطلبات الحد الأدنى، الذي يحفظ للفلسطينيين كرامتهم الإنسانية، وإبقاء شعلة الأمل مُتَّقدة بأنَّ غداً لناظره قريب.
وإذا نظرنا اليوم في مخرجات العشرات من استطلاعات الرأي، فالنتائج في خلاصاتها تقول: إن العمل الإغاثي والجهود الإنسانية وحدها لا تكفي لإخراج الفلسطينيين من واقع البؤس والحرمان، إذ إنَّ هناك ضرورة لتخطي ظروف الفقر والمعاناة وغياب الشعور بالأمن والاستقرار، وهذا لن يتأتى بدون حلٍّ سياسي.
ففي الاستطلاع الذي أجرته حديثاً اللجنة الدولية بين سكان قطاع غزة حول تأثير 15 عاماً من القيود المفروضة بشكل أساسي من قبل إسرائيل على حركة الأفراد والبضائع، أشار ممثلو المجتمع إلى أنّ العديد منهم ومن يمثّلونهم يشعرون بأنهم منسيّون. إذ يعتقد غالبية المشاركين في الاستطلاع (87٪) أنهم يعيشون حياة غير طبيعية مقارنة بالمجتمعات الأخرى حول العالم. وبرأيهم، فإنّ النزاع القائم هو السبب الرئيسي وراء ذلك، يليه القيود المفروضة على حركة الأفراد والبضائع، وكذلك الانقسام السياسي الفلسطيني الداخلي. هذا ويعتقد 94٪ من المشاركين أنّ السنوات الخمس عشرة الماضية كان لها تأثير سلبي على جانب واحد على الأقل من جوانب حياتهم، سواء كان ذلك في نوعية الحياة أو الصحة النفسية أو الصحة البدنية أو مستوى الدخل أو الحياة الاجتماعية.
وفي دراسة أشرف عليها مركز (التفكير للأمام) البريطاني، أشار السيد أوليفر ماك تيرنن مدير المركز، الى أن الأوضاع الكارثية التي يعاني منها الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة ترجع في 90% منها إلى الاحتلال؛ أي غياب الحلِّ السياسي لهذا الصراع.
وعليه؛ فإنَّ مشهد الخلاص الفلسطيني يحتاج إلى دولة ووطن، أما صيغة "شعبٌ تحت الاحتلال" فستظل معها ساحات المواجهة المُسلَّحة مفتوحة بلا نهاية، حتى وإن توفرت ظروف العيش الكريم، فـ"شعبٌ تحت الاحتلال" تعني المواطنة من الدرجة الثانية أو الثالثة، وتعني نظام الفصل العنصري (الأبارتايد)، الذي هو جريمة بحق الإنسانية، والحرمان من حق تقرير المصير، واستمرار النضال لوقف الاستيطان وعمليات النهب لما تبقى من الأرض الفلسطينية.
السؤال الذي يطرح نفسه: إلى متى سوف تستمر حالة المعاناة ووضعية "شعبٌ تحت الاحتلال" قائمة؟ وإلى متى يبقى الدعم الأممي فقط يعمل للتخفيف من جنوح الحالة الإنسانية؟ وهل هناك شيك بنكي ممنوح للفلسطينيين -على بياض- للتأقلم الدائم مع حالة الاحتلال؟ أم أنَّ هناك محطَّة تُوجِبُ على المجتمع الدولي التوقف عن التعامل مع القضية الفلسطينية كقضية إنسانية فقط، والجهر بقول كلمة سواء: كفى احتلالاً.. لقد آن الأوان للحلِّ السياسي أن يأخذ مجراه، والسماح للشعب الفلسطيني بتقرير مصيره وإقامة دولته الحرة المستقلة.
باختصار.. إنَّ ما أوردته السيدة ميريام مولر، مديرة اللجنة الدولية في قطاع غزة، خلال المؤتمر كان معبراً عما تتوفر حوله قناعة الجميع، إذ قالت:
"لقد أُتيحت لي الفرصة لتبادل الأفكار مع مختلف الأشخاص الذين شاركونا هذا اللقاء، والذين أعربوا عن شعورهم بعدم اليقين بشأن ما يحمله المستقبل لعائلاتهم. وبصفتنا منظمة إنسانية، نعتقد أنّ الحلول السياسية فقط كفيلةٌ بتحقيق تحسنٍ مستدامٍ لحل الأزمة الإنسانية المتجذّرة في غزة".
وهذا -في الحقيقة- هو ما عليه وجه اتفاق الكلّ الفلسطيني، فالحل السياسي هو مربط الفرس وحجر الزاوية وبيت القصيد.