الصليب الأحمر: ‏ ‏قطاع غزة أكبر من حاجة إنسانية!!‏

d5ac27ef3d43cab70774aacef4bb6ff7.jpg
حجم الخط

بقلم:د. أحمد يوسف

 

 

كثيرة هي المؤتمرات التي تناولت قضية "المعاناة الإنسانية" التي يمرُّ بها قطاع غزة، ولكنَّ الحقيقة ‏التي لا تغيب شمسها أن القضية تتجاوز كلَّ هذه الحدود، إذ إنَّ جوهر المأساة والجُرح الفلسطيني ‏سياسي بالدرجة الأولى. ‏
نعم؛ "غزة بحاجة إلى أكثر من مساعدات إنسانية"، كان هذا عنوان المؤتمر الذي عقدته – في لفتةٍ ‏رائعة تستحق الشكر- اللجنة الدولية للصليب الأحمر (‏ICRC‏)، بهدف إلقاء الضوء على ما يعانيه ‏قطاع غزة من مشاكل وهموم تتجاوز كونها إنسانية فقط، إذ أنَّ السياسة تلعب دوراً أكبر فيما آلت ‏إليه أحوال القطاع من مآسي وأزمات، طالت الكبير والصغير والغني والفقير، جراء الحصار ‏والاحتلال.‏
لقد كرِّست اللجنة الدولية للصليب ميزانية مالية خاصة للقيام بما تسمح به هذه الإمكانيات من ‏أعمال إنسانية داخل قطاع غزة. ولكنَّ الذي يعمل في الميدان ويتعامل مع الناس ومتطلبات أمنهم ‏واستقرارهم داخل القطاع يدرك -بسهولة - أن المسألة أكبر من مجرد مساعدات إنسانية، ‏فالمعتقلات تضج بآلاف السجناء، ونسب البطالة بلغت عنان السماء، وفي المشافي تقلَّصت أو ‏انعدمت مخزونات الدواء، وتكاثرت حول من ركبوا "قوارب الموت" الأشلاء، وعليه غدت مسألة ‏المعاناة في قطاع غزة تستوجب أكثر من صرخة ونداء.‏
‏ إنَّ ما أشار إليه السيد فابريسيو كربوني؛ مدير عمليات الشرق الأوسط في اللجنة الدولية للصليب ‏الأحمر، قد أصاب كبد الحقيقة، حيث قام بتبهيت الكثير مما يدور في المحافل الغربية من نقاشات ‏حول القضية الفلسطينية، باعتبار جوانبها الإنسانية فقط، قائلاً: "أعتقد أن المسألة التي يتوجب أن ‏يدور حولها الجدل والنفاش ليست هي الوضع الإنساني، بل هي البحث عن حلٍّ سياسي، وأن ما ‏نواجهه -حقيقة- في الأراضي المحتلة هو الافتقار إلى عملية سياسية ذات مصداقية".‏
ولعل هذا ما أراد المؤتمر التأكيد عليه، من خلال الكلمات ومداخلات الحضور، بالقول: إنَّ معاناة ‏قطاع غزة وإن بدت لدى الكثيرين بأنها قضيةٌ إنسانيةٌ بامتياز، إلا أن واقع المظلومية السياسية التي ‏تمر بها القضية الفلسطينية هو الأساس.‏
إنَّ المشاهد التي استحضرتها اللجنة الدولية لوجوه المأساة الإنسانية من المزارعين والصيادين ‏والمرضى والمصابين والعاطلين عن العمل ومن قطاعي المرأة والشباب في قطاع غزة تشي كلها بأن ‏ظاهر الأمر إنساني، ولكنَّ باطنه -بلا شك- سياسي.‏
بالطبع، لا يمكننا الحديث عن حجم المساعدات الإغاثية والتعليمية والصحية ‏وأشكال الدعم الإنساني الذي تمَّ تقديمه لهؤلاء اللاجئين الفلسطينيين لأكثر من ‏سبعينَ سنةٍ، إلا أنه وبلُغة الأرقام المالية قد تجاوز مئات المليارات من الدولارات. ‏ومع ذلك، لم تنتهِ مشاهد أو مشهدية المواجهات المسلحة، ولم تتوقف صور المجازر ‏الدامية، ولم ينجح أحدٌ في وضع حدٍّ للصراع، إذ ما تزال المعارك مفتوحة، والحربُ ‏لم تَضع أوزارها بعد، ولا يظهر في الأفق إمكانية حدوث ذلك في الزمن القريب.‏
نعم؛ الجوانب الإنسانية ما تزال هي الدافع لحيوية المجتمع الدولي في دعم وإسناد الحملات ‏الإغاثية، واعتماد المخصصات المالية، وخاصة للمؤسسات التي تمَّ إنشاؤها مع بداية النكبة لتلبية ‏الاحتياجات الحياتية لمخيمات اللجوء في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات، مثل وكالة (الأونروا)، ‏وهي ما تزال تؤدِّي رسالتها الإنسانية في إغاثة وتشغيل اللاجئين، وتسعى لتوفير متطلبات الحد ‏الأدنى، الذي يحفظ للفلسطينيين كرامتهم الإنسانية، وإبقاء شعلة الأمل مُتَّقدة بأنَّ غداً لناظره قريب.‏
وإذا نظرنا اليوم في مخرجات العشرات من استطلاعات الرأي، فالنتائج في خلاصاتها تقول: إن ‏العمل الإغاثي والجهود الإنسانية وحدها لا تكفي لإخراج الفلسطينيين من واقع البؤس والحرمان، إذ ‏إنَّ هناك ضرورة لتخطي ظروف الفقر والمعاناة وغياب الشعور بالأمن والاستقرار، وهذا لن يتأتى ‏بدون حلٍّ سياسي.‏
ففي الاستطلاع الذي أجرته حديثاً اللجنة الدولية بين سكان قطاع غزة حول تأثير 15 عاماً من ‏القيود المفروضة بشكل أساسي من قبل إسرائيل على حركة الأفراد والبضائع، أشار ممثلو المجتمع ‏إلى أنّ العديد منهم ومن يمثّلونهم يشعرون بأنهم منسيّون. إذ يعتقد غالبية المشاركين في الاستطلاع ‏‏(87٪) أنهم يعيشون حياة غير طبيعية مقارنة بالمجتمعات الأخرى حول العالم. وبرأيهم، فإنّ النزاع ‏القائم هو السبب الرئيسي وراء ذلك، يليه القيود المفروضة على حركة الأفراد والبضائع، وكذلك ‏الانقسام السياسي الفلسطيني الداخلي. هذا ويعتقد 94٪ من المشاركين أنّ السنوات الخمس عشرة ‏الماضية كان لها تأثير سلبي على جانب واحد على الأقل من جوانب حياتهم، سواء كان ذلك في ‏نوعية الحياة أو الصحة النفسية أو الصحة البدنية أو مستوى الدخل أو الحياة الاجتماعية.‏
وفي دراسة أشرف عليها مركز (التفكير للأمام) البريطاني، أشار السيد أوليفر ماك تيرنن مدير ‏المركز، الى أن الأوضاع الكارثية التي يعاني منها الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة ترجع في ‏‏90% منها إلى الاحتلال؛ أي غياب الحلِّ السياسي لهذا الصراع.‏
‏ وعليه؛ فإنَّ مشهد الخلاص الفلسطيني يحتاج إلى دولة ووطن، أما صيغة "شعبٌ تحت الاحتلال" ‏فستظل معها ساحات المواجهة المُسلَّحة مفتوحة بلا نهاية، حتى وإن توفرت ظروف العيش الكريم، ‏فـ"شعبٌ تحت الاحتلال" تعني المواطنة من الدرجة الثانية أو الثالثة، وتعني نظام الفصل العنصري ‏‏(الأبارتايد)، الذي هو جريمة بحق الإنسانية، والحرمان من حق تقرير المصير، واستمرار النضال ‏لوقف الاستيطان وعمليات النهب لما تبقى من الأرض الفلسطينية.‏
السؤال الذي يطرح نفسه: إلى متى سوف تستمر حالة المعاناة ووضعية "شعبٌ تحت الاحتلال" ‏قائمة؟ وإلى متى يبقى الدعم الأممي فقط يعمل للتخفيف من جنوح الحالة الإنسانية؟ وهل هناك شيك ‏بنكي ممنوح للفلسطينيين -على بياض- للتأقلم الدائم مع حالة الاحتلال؟ أم أنَّ هناك محطَّة تُوجِبُ ‏على المجتمع الدولي التوقف عن التعامل مع القضية الفلسطينية كقضية إنسانية فقط، والجهر بقول ‏كلمة سواء: كفى احتلالاً.. لقد آن الأوان للحلِّ السياسي أن يأخذ مجراه، والسماح للشعب الفلسطيني ‏بتقرير مصيره وإقامة دولته الحرة المستقلة.‏
باختصار.. إنَّ ما أوردته السيدة ميريام مولر، مديرة اللجنة الدولية في قطاع غزة، خلال المؤتمر ‏كان معبراً عما تتوفر حوله قناعة الجميع، إذ قالت: ‏
‏ "لقد أُتيحت لي الفرصة لتبادل الأفكار مع مختلف الأشخاص الذين شاركونا هذا اللقاء، والذين ‏أعربوا عن شعورهم بعدم اليقين بشأن ما يحمله المستقبل لعائلاتهم. وبصفتنا منظمة إنسانية، نعتقد ‏أنّ الحلول السياسية فقط كفيلةٌ بتحقيق تحسنٍ مستدامٍ لحل الأزمة الإنسانية المتجذّرة في غزة".‏
وهذا -في الحقيقة- هو ما عليه وجه اتفاق الكلّ الفلسطيني، فالحل السياسي هو مربط الفرس ‏وحجر الزاوية وبيت القصيد.‏