عن السياسة التركية المتحولة تجاه المنطقة

حجم الخط

بقلم سنية الحسيني

 

 


ليس من الصعب على المتابع للشأن التركي ملاحظة التحول الذي طرأ على السياسة الخارجية لتركيا تجاه منطقة الشرق الأوسط خلال العامين الأخيرين. وبعد أن كانت تركيا تميل في رسم سياستها الخارجية تجاه المنطقة خلال فترة الثورات العربية للتأثر بالمعايير الأيديولوجية باتت اليوم تميل نحو البراغماتية بشكل ملحوظ. وهناك العديد من الشواهد التي تشير إلى هذا التحول في السياسة الخارجية اليوم سواء في سورية أو تجاه إسرائيل ودولة الإمارات العربية والمملكة العربية السعودية والنظام السوري ومصر. ويعود ذلك التحول لأسباب يرجع عدد كبير منها لتطورات داخلية بينما تأثرت تركيا أيضاً بتطورات حدثت على الساحة الدولية، ساهمت في تبلور توجهاتها السياسية الخارجية اليوم. وعودة إلى السياسة التي تبنتها تركيا في الماضي والمعروفة بـ "تصفير المشكلات" يبدو أنها تعود إليها مرة أخرى، لكن بشكل أكثر خبرة وحنكة.
تتميز هذه التحولات بالعقلانية وعدم التأثر بالأيديولوجيا كما سجل العقد الماضي، وبالتوازن وعدم الاندفاع في تلك السياسات، مستفيدة من طول تجربة إدارة رجب طيب أردوغان في الحكم، والتطورات السياسية المتلاحقة في الساحة الدولية. ولعل من أهم أسباب تلك التحولات في السياسة التركية اليوم يعود إلى العزلة التي تعرضت لها البلاد في منطقة تعد أساسية لاهتماماتها السياسية، عندما تبنت خلال العقد الماضي وعهد الثورات العربية سياسة أيديولوجية جعلتها تخسر العلاقة مع دول مهمة في الشرق الأوسط مثل مصر ودولة الإمارات العربية والمملكة العربية السعودية. كما خسرت تركيا أيضاً بسبب تلك السياسة الأيديولوجية حليفتها المقربة إسرائيل بدءاً من العام ٢٠٠٨ والحرب الأولى على غزة مروراً بمواجهة دافوس الإعلامية في العام التالي، ووصولاً إلى حادث سفينة مرمرة بالقرب من بحر غزة عام ٢٠١٠ وما تلاها من تطورات، بعد أن كانت أول من اعترف بها من بين الدول ذات الأغلبية المسلمة عام ١٩٤٩، بالإضافة إلى أن إسرائيل قد اعتبرت شريكاً عسكرياً هاماً لها منذ ستينات القرن الماضي، ناهيك عن علاقات البلدين الاقتصادية المميزة. ويبدو السبب السابق والمتعلق بتغير سياسة تركيا بسبب عزلتها في منطقة الشرق الأوسط أكثر أهمية اذا اقترن بتوجهات السياسة الأميركية فيها، والتي تتجه نحو الانسحاب التدريجي من التزاماتها العميقة، وتحويل تلك الالتزامات نحو حلفائها الإقليميين في المنطقة، وهي سياسة بدأت تتبلور عملياً بوضوح بعد تولي جو بايدن الحكم.
يعد السبب الاقتصادي من الأسباب المهمة في تبني تركيا لسياسة خارجية أكثر برغماتية وأقل أيديولوجية. وبعد أن شهدت السنوات الأولى لحكم أردوغان انتعاشاً وتميزاً اقتصادياً رفع أسهمه شعبياً في البلاد، تراجع الوضع الاقتصادي بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. وترتفع نسبة البطالة في البلاد بشكل كبير، وتواصل قيمة الليرة التركية هبوطها، ففقدت ٤٠٪؜ من قيمتها ما بين العام الماضي والحالي، وتتأرجح نسبة التضخم المتضخم اليوم ما بين ٧٠٪؜ و٨٠٪؜. وقد يكون من أهم أسباب تردي الوضع الاقتصادي التركي في السنوات الأخيرة تلك الاتفاقية التي عقدتها تركيا مع الاتحاد الأوروبي عام ٢٠١٦، والتي تتعهد فيه تركيا باستيعاب اللاجئين السوريين مقابل عدة مليارات من الدولارات الأوروبية. بدأ الاقتصاد التركي بالتأثر بشكل ملحوظ منذ العام ٢٠١٨، بعد أن استوعبت البلاد حوالى أربعة ملايين لاجئ سوري، والتزمت تركيا بالجزء الخاص بها في الاتفاق، في حين لم تحصل على الأموال الأوروبية الموعودة وفق اتفاق عام ٢٠١٦.
يتعلق السبب الاقتصادي بشكل مباشر اليوم بالانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية منتصف العام القادم، حيث تتسبب الأزمة الاقتصادية في البلاد باستياء شعبي كبير، والذي يترجم أيضاً برفض وجود المهاجرين السوريين في البلاد. إن هذا الأمر يفسر الضغط التركي تجاه الأراضي السورية، لمحاربة قوات سورية الديمقراطية الكردية "قسد"، الأمر الذي يمكّن من استيعاب اللاجئين السوريين الموجودين الآن في تركيا في المستقبل القريب. وتتذرع تركيا اليوم بالعملية الإرهابية الأخيرة التي حدثت بالقرب من ميدان تقسيم الشهر الماضي لشن هجوم جديد رابع على هذه القوات لتأمين المنطقة، وكانت توعدت به منتصف العام الحالي، وبات الآن أقرب للتنفيذ. ويعد هذا الهجوم مهماً الآن من الناحية الانتخابية انطلاقاً من البعد الاقتصادي في الأساس، وكذلك لأسباب أمنية تتعلق بعدم تسرب الإرهابيين من شمال سورية لتركيا.
ويعود توجه تركيا القوي لمحاربة الأكراد وتحجيم دورهم في الشمال السوري اليوم لتغير معادلات توازن القوى في الأراضي السورية والتي باتت تميل لصالحها، خصوصاً بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وتسعى تركيا لتأمين منطقة الشمال السوري الحدودية معها من الوجود العسكري الكردي المدعوم أميركياً. ولم تنجح الاتفاقيات السابقة بين تركيا والأطراف الفاعلة في سورية بإبعاد تلك المليشيات الكردية لمسافة معينة حددتها تركيا. الا أن التطورات الدولية وتطور سياسة تركيا البراغماتية غيّرت المعادلات اليوم وجعلت تركيا أقرب لتحقيق أهدافها سواء بالحرب أو بالاتفاق. وأدى انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا إلى تشجيعها تطور علاقات تركيا بالنظام السوري، وهو ما تحقق بالفعل اليوم، رغم رفض النظام التركي ذلك في الماضي. ويهتم النظام السوري اليوم بالتخلص من القوات الكردية المسلحة، في ظل تطلع الأكراد للاستقلال عن الدولة السورية. كما تطورت العلاقات التركية الإيرانية داخل الحدود السورية، وتوحدت التطلعات للتخلص من قوات كردية مسلحة في شمال سورية، بعد أن زاد الخطر الكردي عليها بعد توحد تطلعات الأكراد في العراق أيضاً للاستقلال، وهي الساحة الخلفية لإيران. ويبدو أن الولايات المتحدة الداعم الرئيس للمليشيات الكردية المسلحة قد خففت من حدة دعمها لها مؤخراً، في ظل عدم رغبتها بتفاقم الأوضاع في سورية. إن ذلك يفسر الموقف القوي الذي تمتلكه تركيا اليوم في سورية لتحقيق أهدافها، والذي اعتمد على تطور سياستها البراغماتية تجاه اللاعبين الأساسيين في الساحة السورية، وتأثير معادلات توازن القوى في تلك الساحة بفعل الحرب الروسية الأوكرانية.
ورغم هذه التحولات البراغماتية في سياسة تركيا اليوم، الا أنها أبقت على حالة من التوازن بين الأيديولوجية والبراغماتية في سياستها. فرغم عودة علاقاتها السياسة والدبلوماسية مع إسرائيل اليوم، وتطور العلاقات بين البلدين بشكل جلي، الا أن تركيا لم ترجع علاقاتها العسكرية مع إسرائيل كسابق عهدها، بعد أن باتت تمتلك علاقات عسكرية قوية مع جهات أخرى، كما لم تلب مطالب إسرائيل الخاصة بحركة حماس بشكل كامل، وتشير التصريحات الرسمية الأخيرة إلى عدم نيتها القيام بذلك. ورغم أن العلاقات التركية الغربية (الأميركية الأوروبية) لم تعد لسابق عهدها، إلا أن تركيا تصر على لعب دور جوهري في الوساطة بين روسيا والغرب، ويبدو أن روسيا تقبل بدور تركيا وتدعمه.
تغيرات عديدة سيشهدها العالم ليس فقط في الشرق الأوسط بل في مناطق أخرى من العالم، في ظل إرهاصات تحول النظام العالمي الأحادي القطبية.