لست أعتقد أن ثمة ترتيبا مسبقا، لكي تتزامن القمة الخليجية والعربية الصينية مع وقائع «مونديال قطر»، ذلك أن المؤشّرات التي ينطوي عليها الحدثان الكبيران، تجعل منهما حدثين تاريخيين بامتياز، وتتكامل فيهما الرسائل ذات الأبعاد العميقة والاستراتيجية.
قطر باسم العرب، وبالنيابة عن الدول الصغيرة، من وجهة نظر الغرب والنامية وفق تعبير أوسع وأشمل، وضعت مخرزاً في عيون المشكّكين والمنتقدين والعنصريين، الذين اعتقدوا أن هذه الدولة الصغيرة، هي أصغر من أن تنافس على احتضان هذا المهرجان الدولي الإنساني.
نجحت قطر أيّما نجاح في تنظيم وتوفير الأمن، والخدمات لملايين المشجّعين من مختلف أنحاء العالم، وقدمت مشهداً بسبعة نجوم، تفوقت من خلاله على الدول التي اعتقدت أنها صاحبة الاختصاص الحَصري.
وقائع ومجريات النشاط الكروي، حملت الكثير من المفاجآت ذات المغزى، التي لا تتوقف تداعياتها على ما يجري في الملاعب، بدأت الإشارة الأولى حين ألحق الفريق السعودي الهزيمة بالفريق الأرجنتيني الذي يحظى بمكانة متقدمة في ترتيب فرق العالم.
مجريات النشاط الكروي في قطر، هزمت الغرور، والاستكبار والعنصرية وأطاحت بالكبار الذين جاؤوا إلى قطر، تسبقهم ادعاءات بأنهم سيصلون إلى المربع الذهبي.
لو أنك سألت قبل انطلاق المسابقات عن أي الفرق المرشحة للفوز بالوصول إلى المربع الذهبي، لكان الجواب السريع، بأن البرازيل هي المرشحة الأولى للفوز بالكأس، وأن المنافسة ستكون قوية بين البرازيل والأرجنتين، وفرنسا وإنجلترا وإسبانيا وألمانيا والبرتغال.
سقطت ألمانيا مبكراً، وعاد نجومها إلى بلادهم شاكين باكين، وخرجت إسبانيا على أقدام الفريق المغربي، وعاد بوسكيتس ونجوم فريقه، إلى بلادهم يتجرّعون الحسرة. ثم سقطت البرازيل، ثم سقطت البرتغال، أيضاً، على أقدام الفريق المغاربي.
لكأن المغرب تصفّي حسابات قديمة مع البرتغال، وحديثة مع إسبانيا التي لا تزال تقتطع أجزاء من المغرب.
سقط الكبار بسبب استهتارهم بالآخرين، ولم يعد ثمة قيمة للأسماء الكبيرة، التي تساوي أسعارها السوقية مئات الملايين واختفت الروح الرياضية التي تشكل أهم قيم هذه الرياضة.
بكى نيمار الكبير، وبكى زملاؤه، وهم فريق النجوم، وبكى الأسطورة رونالدو، وبكى زملاؤه، وهم، أيضاً، فريق نجوم كبار في عالم المستديرة.
ليس مهماً من يفوز بالكأس، فلقد وصلت الرسائل، ولم يكن السياق العام لهذا النشاط متوقعاً، ولا مخطّطاً من قِبَل أحد. فريق الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس في زمن سابق، وبأقدام نجمه هاري كين، أجبر فريقه على المغادرة، بعد أن فشل في تسجيل الهدف من ركلة جزاء.
ولعلّ الرسالة الأخرى البليغة، هي سقوط ومغادرة فريق الدولة أو الإمبراطورية التي تتسيد منذ عقود طويلة النظام العالمي الجديد، وبدا وكأن أميركا لم تعد قادرة على الدفاع عن نظامها الدولي، وعن مكانتها الاحتكارية.
لقد أدخلت المنافسة الكروية الشك في عقول وقلوب الساسة، الذين اعتقدوا أنهم مخلّدون في مواقع القوة.
كان على هؤلاء أن يقرؤوا مبكراً الإشارات القوية التي تعكسها الملاعب، حيث انتهى عصر العبودية، وتحوّل العبيد إلى أسياد في الملاعب.
كثير من الفرق القوية، تتشكل من لاعبين ملوّنين، أو سود، ولا يمكن أن يرى الإنسان فريقاً واحداً، من بشرة بيضاء، بل إن النجوم الكبار والأساطير، ليسوا من أصحاب البشرة الشقراء، من بيليه إلى رونالدو وميسي، ونيمار ومبابي ومحمد صلاح.
على خطٍّ موازٍ، وفي رحاب المونديال التاريخي، تنعقد قمة بل قمم تاريخية، تشير إلى التغيير الجذري الساري والمرتقب على صعيد الأمة العربية ودول الشرق الأوسط، كما على الصعيد العالمي.
الحرب في أوكرانيا، والتي وضعها الروس في سياق السعي والكفاح من أجل تغيير النظام العالمي، القائم على أحادية القطب، نحو عالم متعدد الأقطاب، هذه الحرب ليست المؤشر القوي الوحيد على الوجهة التي تنتظر العالم الجديد. الولايات المتحدة كانت قد حددت أعداءها من بعض الوقت، وكانت الصين على رأس قائمة الأعداء، حتى وهي لم تستخدم القوة العسكرية بعد.
الصين تقترب من أن تصبح القوة الاقتصادية الأولى على مستوى العالم، وهي فضلاً عن ذلك تمتلك كل أسباب وأدوات ووسائل القوة العسكرية الرادعة، حتى أن أميركا بدأت تشكو من سرعة تطور الإمكانات العسكرية والنووية والتكنولوجية الصينية.
العرب ليسوا نفطاً وغازاً، هكذا عبر أحد المسؤولين العرب الذين حضروا القمة الخليجية والعربية الصينية، وهي إشارة إلى استعدادهم للتمرد على آليات الهيمنة الأميركية.
العرب حضارة، بشر، كرامة، احترام للذات، تنمية وحرص على المصالح، ودور متزن ومتوازن في سوق الاقتصاد والسياسة.
لقد فاجأني الرقم الذي أفصح عنه الرئيس الصيني لحجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية حين قال: «إننا أوجدنا سبع عشرة آلية للتعامل، وأن الميزان التجاري بلغ ثلاثمائة مليار دولار».
القمة الخليجية والعربية، في بيانها، استعادت المكانة المركزية للقضية الفلسطينية واستعادت خطاب «حل الدولتين»على أساس «مبادرة السلام العربية»، وقد ورد النص ذاته في بيان القمة الخليجية والعربية الصينية، بالإضافة إلى الموقف الواضح جداً والحازم الذي عبّر عنه الرئيس الصيني بشأن القضية الفلسطينية.
من المهمّ أن القمة، أيضاً، عبّرت عن موقفٍ متقدم للعرب يندد بالعملية الإرهابية التي وقعت في شارع تقسيم وسط اسطنبول، وأعلنت دعمها للموقف التركي في الحرب ضد الإرهاب، وهو أمر يشير إلى الانحياز لتركيا، في مواجهة الموقف الأميركي بشأن العملية العسكرية التركية شمال وشمال شرقي سورية.
ومرة أخرى وبالرغم من الانتقاد الأميركي عبّر بيان القمة الخليجية والعربية عن تمسّكه بموقف «أوبك بلس»، ما يشير إلى تحوّلات في نظرة العرب لدورهم، وإعادة بناء علاقاتهم الاستراتيجية مع القوى الدولية، انطلاقاً من احترام الذات والحرص على مصالحهم.