شهران حاسمان في مسار الحرب الروسية ـ الأوكرانية

حجم الخط

بقلم لواء دكتور سمير فرج (مصري )

مع اقتراب الاجتياح الروسي لأوكرانيا من إتمام شهره العاشر، يتساءل الكل؛ إلى أين تقودنا هذه الحرب؟ وهل هناك نهاية لهذا النفق المظلم الذي دخلته، وأصبح يؤثر على العالم كله؟ وهناك من يتساءل؛ هل يعيد التاريخ نفسه؟
ففي خمسينات القرن الماضي، قامت ثورة في كوبا، وهي الجزيرة الملاصقة للولايات المتحدة، ضد حكم فولغينسيو باتيستا، ونتج عنها قيام الحكم الشيوعي، بزعامة فيديل كاسترو، ومعه تشي غيفارا. وتماشياً مع أحداث تلك الحقبة التاريخية، وقّعت كوبا برئاسة كاسترو اتفاقية تعاون مع الاتحاد السوفياتي، رمز الشيوعية آنذاك. ففوجئت الولايات المتحدة، برئاسة جون كيندي في 1962، بوجود صواريخ نووية سوفياتية على الأراضي الكوبية الملاصقة لحدودها، وهو ما اعتبرته الولايات المتحدة تهديداً مباشراً لأمنها القومي. فوجود صواريخ نووية لدولة أجنبية على أرض ملاصقة أو قريبة يعتبر تهديداً لأمن دول الجوار، وفقاً لمفاهيم الأمن القومي وقواعد العلوم العسكرية.
وأمام ذلك التهديد الصريح، أصدر كيندي أوامره بالاستعداد لإطلاق الصواريخ النووية الأميركية باتجاه كوبا ومحوها من الوجود تماماً. استمرت تلك الأزمة لمدة 14 يوماً، وانتهت بسحب الاتحاد السوفياتي صواريخه النووية من كوبا، مع قيام الولايات المتحدة بسحب بطارية صواريخ نووية لها من الأراضي الحدودية. وعرفت هذه الأزمة باسم «أزمة الصواريخ الكوبية»، وكانت سبباً في ظهور علم إدارة الأزمات الذي صار مادة أساسية في كل معاهد وكليات العلوم الاستراتيجية والأمن القومي في العالم.
واليوم، بعد 60 عاماً، يتكرر المشهد نفسه على المسرح الأوروبي مع تبدل الأدوار؛ فها هي روسيا رمز بقايا الاتحاد السوفياتي المنهار في عام 1991، تجد دولة جوار مستقلة كانت يوماً ضمن اتحادها، وهي أوكرانيا، تطالب بالانضمام لحلف «الناتو»، بما سيسمح بوجود قواته الأميركية أو البريطانية أو الفرنسية، على أرضها. فتكرر المشهد الذي دار منذ 60 عاماً، ولكن في هذه المرة أصبحت روسيا هي من ترفض وجود قوات أجنبية على أراضي دولة مجاورة، وطلبت من الولايات المتحدة ودول «الناتو»، التعهد كتابياً بعدم ضم أوكرانيا إلى الحلف.
وأمام ما واجهته روسيا من رفض الولايات المتحدة، ودول «الناتو» لطلبها، ما كان منها إلا أن بدأت في حشد قواتها العسكرية على حدود أوكرانيا. وبدراسة هذه الحشود وحجمها ونوعيتها وأسلوب تمركزها، يتضح أنها تجميع قتالي يهدف للقيام بعمليات هجومية لاختراق أوكرانيا. وبالطبع، أعلنت الولايات المتحدة ودول «الناتو»، عدم تدخلها في العمليات العسكرية حال نفذتها روسيا، ولكن هددت بفرض عقوبات اقتصادية رادعة على روسيا في حالة اجتياحها أوكرانيا.
ومما لا شك فيه، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد اجتمع بمجلس دفاعه في موسكو لدراسة الجوانب كافة المتعلقة بالموقف. ويبدو أن مستشاريه الاقتصاديين أكدوا له قدرة الاقتصاد الروسي على تحمل العقوبات المنتظرة عليه من الولايات المتحدة والدول الأوروبية، فيما شدد مستشاروه العسكريون على قوة روسيا العسكرية وقدرتها على مهاجمة أوكرانيا والانتصار عليها. وهنا اتخذ بوتين قراره بمهاجمة أوكرانيا، وفرض إرادته عليها، إما بإجبار حكومتها الحالية على توقيع تعهد بعدم الانضمام إلى «الناتو»، وعدم السماح لأي قوات عسكرية أجنبية بالوجود على أراضيها، وإما تغيير الإدارة الأوكرانية الحالية، واستبدال حكومة عسكرية بها تدين بالولاء لروسيا، مثلما كان الحال قبل الانتخابات الأوكرانية الأخيرة في 2019.
وانطلاقاً من هدفها الوصول لأحد هذه البدائل، شنت روسيا الهجوم على أوكرانيا، في عمليات تعرف في مفاهيم العلم العسكري باسم «حرب تقليدية محدودة»، ويرجع تعريفها بـ«التقليدية» إلى أنها ليست حرباً نووية، في ظل عدم امتلاك أوكرانيا للسلاح النووي. أما مصطلح «محدودة» فيرجع إلى أنها بين دولتين، فقط، هما روسيا وأوكرانيا، بعدما أعلنت الولايات المتحدة وحلف «الناتو»، عدم اشتراكهما في هذه الحرب. وبدأت العمليات العسكرية بتنفيذ روسيا ضربة صاروخية ضد البنية التحتية العسكرية الأوكرانية بالصواريخ الباليستية عالية الدقة وصواريخ «كروز»، بالتزامن مع ضربة سيبرانية إلكترونية.
وجاءت الضربة الصاروخية، بديلاً لما كان يتم من قبل، في مختلف الحروب التقليدية، من توجيه ضربة جوية، وأظن أن ذلك الفكر الروسي الجديد سيُعتمد كمنهج في الحروب المستقبلية، نظراً لارتفاع تكلفة الضربات الجوية، إذ يصل ثمن الطائرات الحديثة مثل «إف 16» و«سوخوي» إلى 100 مليون دولار، مقارنة بالصاروخ الذي يقل سعره عن ذلك كثيراً، وينفذ المهمة نفسها.
انطلقت الضربة الصاروخية، ومعها الهجمة السيبرانية، ضد قواعد الصواريخ الأوكرانية والرادارات ومراكز القيادة والسيطرة ومخازن الصواريخ والمصانع الحربية والتجمعات القتالية والقواعد الجوية والمطارات الحربية الأوكرانية، وتمكنت هذه الضربات الروسية القوية من تدمير حوالي 70 في المائة من البنية الأساسية العسكرية الأوكرانية خلال 5 ساعات.
واليوم و بعد مرور 10 أشهر على هذه الحرب، الكل يتساءل؛ هل هناك بارقة أمل ونحن ندخل بعد أيام في العام الجديد؟ هل من الممكن أن تنتهي هذه الحرب؟ وهل سيعود السلام؟
والواقع أن كل التحليلات تشير إلى أنه من المنتظر أن تظهر بوادر حل لهذه الحرب مع نهاية هذا الشتاء، عندما تظهر نتائج حرب الغاز التي تشنها روسيا منذ نهاية الخريف ضد أوكرانيا ودول الاتحاد الأوروبي، وما إذا كان ذلك سيؤثر في المواطن الأوروبي الذي تراهن روسيا على دفعه حكوماته إلى التخلي عن دعم أوكرانيا في سبيل أنه ذاق الأمرين في الشتاء القارس ولم يحصل بعضه على التدفئة الكافية مع ارتفاع الأسعار والتضخم والبطالة، وهي أمور تسببت فيها كلها هذه الحرب.
وإضافة إلى ذلك، تتكاثر التساؤلات عن استمرار الدعم الأميركي، خصوصاً بعد فوز الجمهوريين بالأغلبية في الكونغرس، إذ من المحتمل تقليل الدعم العسكري والمادي الذي كان يقدمه الرئيس جو بايدن إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فهل سيقبل الرئيس الأوكراني الجلوس على طاولة المفاوضات مع الرئيس بوتين للوصول إلى حل سياسي سلمي؟ وما هو الحل المقترح للوصول إلى تسوية سياسية بعد أن تعقدت الأمور بإعلان الرئيس بوتين ضم لوهانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوريجيا؟ سترفض روسيا أي مساس بهذه المناطق، وكذلك شبه جزيرة القرم التي تطالب روسيا منذ بدء الحرب أن تعترف أوكرانيا بأنها جزء من روسيا الاتحادية. وكل ذلك بالطبع سيعقد الدخول إلى تسوية سلمية.
وعموماً، فإن أوكرانيا أعلنت منذ البداية أنه لا مانع لديها بقبولها المبدئي بعدم الانضمام إلى حلف «الناتو»، وتعهد عدم الحصول على سلاح نووي مستقبلاً. لكن ستظل المناطق الأربع وشبه جزيرة القرم هي العقبة للتوصل إلى أي حل سياسي مستقبلاً. كذلك أعتقد أن انخفاض الدعم الأميركي لأوكرانيا مستقبلاً، واحتمالات ضغط الشعوب الأوروبية، قد يدفع الرئيس الأوكراني إلى قبول الدخول في مفاوضات سلمية، خصوصاً أن هناك 10 ملايين أسرة أوكرانية، تعيش الآن بلا كهرباء. على أي حال، فإن نتائج أحداث الشهرين المقبلين ستكون لها تبعات حاسمة على فرص الوصول إلى حل سلمي قريب لهذه الحرب.