بالأمس ودّعنا احتفالية كأس العالم، وأسدل الستار على هذه التجربة الإنسانية الرائعة، لتتحول كل فعالياتها إلى أرقام وبيانات في سجلات الفيفا، وإلى ذكريات حزينة ومبهجة في وجدان اللاعبين والمشجعين.
وبالنظر إلى مجمل التجربة، يمكن استخلاص الكثير من العبر، وبما أني لست مختصاً في شؤون الرياضة، سأكتفي بالإشارة إلى ثلاث محطات ملهمة في المجالين السياسي والإنساني:
أولها: أظهرت فعاليات الأولمبياد المكانة الكبيرة والعميقة التي تحتلها فلسطين وقضيتها في وجدان العالم بأسره، وبشكل خاص لدى الشعوب العربية، فعَلم فلسطين كان يظهر أيّما وليت وجهك: في المدرجات، وبأيدي اللاعبين، وفي الشوارع والتجمعات، حتى أن صحفاً أجنبية أشارت إلى أن الرابح الأول في الأولمبياد كانت فلسطين. كل هذا تم بجهود ومبادرات فردية، وبتلقائية، وجاء صادقاً ومعبراً، ذلك لأن قضية فلسطين عادلة، بل وتكثف كل معاني العدالة والحق والثورة على الظلم والطغيان، ومناهضة العنصرية والاحتلال.
وبنفس القدر أظهرت مدى رفض العالم لإسرائيل، خاصة من الشعوب العربية، بما في ذلك مواطنو الدول المطبعة، وهذه علامة فارقة وبالغة الأهمية، وتؤكد أن الضمير الإنساني سيظل رافضاً لكل أشكال الاحتلال والعنصرية والعدوان (التي تمثلها إسرائيل)، وتضع كل الجهود والإنفاقات الطائلة على ما يسمى «سلام أبراهام» في مهب الريح.
ثانيها: أظهر تفاعل الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج قدراً كبيراً من أشكال التضامن العربي، فكل الجماهير العربية كانت تشجع وبكل حماسة أي فريق عربي، حتى لو كانت مباراته ضد منتخب محبوب، ولو أدى ذلك إلى خروج نجم كبير طالما تمتع بشعبية جارفة، وفي هذه الأجواء الحماسية والتضامنية نسي العرب خلافاتهم السياسية وصراعاتهم البينية، وهذا النسيان ليس لنقصٍ في الذاكرة، بل هو ترفّع عنها، وتأكيد على أن هذه النزاعات السياسية لم تصب الوجدان العربي، وأنَّ الشعور بالانتماء لأمة واحدة هو أعمق وأكثر تجذراً.
وحتى لا يتحول الاستنتاج إلى مرافعة خطابية، يجدر القول: إن ظاهرة التضامن الشعبي العربي ببعدها الإنساني والاجتماعي والثقافي هي البديل عن القومية العربية بمعناها الأيديولوجي والسياسي، أي بديل عن مشروع الوحدة العربية الذي رفعته أيديولوجيات حزبية مثّلها الناصريون والبعثيون والقوميون العرب، وأرادوا منها فرض الوحدة بالقوة، أو حصرها بالبعد السياسي، ومن منطلق عرقي، وهو مشروع أخفق وانتهى ولم يعد مطروحاً وقد تبين أنه غير واقعي، ويسير بعكس مسار حركة التاريخ (الماضي قُدماً في ثلاثة اتجاهات: تكريس الدولة الوطنية، تجاوز الأيديولوجيات، والتقدم باتجاه تعزيز المزيد من روابط الإنسانية والحضارة المعولمة).
ومن ناحية أخرى، فإن هذا الشكل من التضامن الشعبي على مستوى الجماهير هو نتاج مسار تاريخي طويل من تكثيف وتعزيز التفاعلات العربية، وتعميق إحساسها وإيمانها بكل ما هو وحدوي ومشترك من آداب وفنون وإبداع ورياضة ولغة وثقافة ودين وتاريخ مشترك وهوية جامعة. وهو أهم وأكثر رسوخاً من التفاعل العربي الرسمي على مستوى النخب السياسية والطبقات الحاكمة. دون أن نقلل من أهمية العمل العربي المشترك باتجاه تمتين أشكال التعاون الرسمي بين البلدان العربية، مثل تسهيل المرور بين الحدود، وإقامة مشاريع اقتصادية مشتركة، وأشكال التعاون الأخرى في المجالات الأمنية والزراعية والبيئية والتكنولوجية، وتبنّي موقف سياسي واحد، وتقوية مؤسسة القمة العربية وجامعة الدول العربية، وصولاً إلى بناء تحالف عربي إسلامي دولي يخدم القضايا المشتركة، وفي مقدمتها قضية فلسطين.
ثالثها: على المستوى العالمي والإنساني، وهنا يمكن القول: إن مونديال قطر يأتي ضمن حلقة مهمة في مسلسل تطور الحضارة الإنسانية، ولكن على ألّا نحمّله فوق طاقته، ولا نضعه إلى جانب حقول العلوم والفنون والفلسفة على نفس القدر من المساواة، أي دون مبالغة وتهويل.. ومع الإقرار بأن الرياضة (تحديداً كرة القدم) باتت شأناً عالمياً بالغ الأهمية، بدليل حجم التفاعل العالمي مع المونديال، والذي ملأ الدنيا وشغل الناس على مدى شهر كامل. وهذا التفاعل خرج من نطاق الرياضة إلى حقول أخرى عديدة، مثل قضايا الجندر، والمثلية، والاستشراق، والعنصرية، وحقوق العمّال، والحريات، وصورة الشرق لدى الغرب.
ولو تتبعنا مسار المونديال منذ نشأته في الأوروغواي عام 1930، وحتى دورته الأخيرة في قطر 2022، سنجد تطوراً رياضياً (على المستوى التقني والتنظيمي والقانوني) سار مواكباً مع مسيرة الحضارة الإنسانية في تحولها من مركزها الغربي (الأوروبي) إلى عولمتها وشموليتها بالمعنى الإنساني الأكبر، أي نزع الغرب من المركز والصدارة، ضمن تحول تاريخي يؤسس لحضارة إنسانية متعددة المراكز والأشكال، تدخل فيها إلى مواقع الصدارة المزيد من دول وشعوب العالم الثالث.
وبما أن كرة القدم كانت أيقونة الغرب واختراعه، ظلت محتكرةً لها على مدى عقود متتالية، فكانت بطولة كأس العالم في أول دورة لها محصورة في 13 دولة فقط، ثم ظلت حكراً على قارتي أميركا وأوروبا، ثم سمح لقارات آسيا وأفريقيا وأستراليا بالتنافس على مقعد واحد فقط، ثم تدريجياً فتح المجال لمزيد من الدول حتى صار من حق كل دولة التقدم للمنافسة الدولية. وبنفس مسار التطور سنلاحظ أن مشاركة الرياضيين من ذوي البشرة السمراء كانت ممنوعة، حتى في دولة مثل البرازيل أغلبية سكانها سمر البشرة! أي أنها كانت رياضة البيض باعتبارهم صفوة البشرية! وهذه العنصرية البغيضة أخذت تختفي تدريجياً، سواء بالقوانين أم بالواقع والقبول بمشاركة «السود»، وصولاً إلى تجريم أي سلوك أو نزعة عنصرية.
وفي هذا المجال لم تعد كرة القدم ثيمة الغرب المتطور، ولم تعد شعوب العالم الثالث على الهامش، أو على مقاعد المتفرجين، فقد برزت في مونديال قطر منتخبات آسيا وأفريقيا متقدمة ومقصية منتخبات غربية طالما تفاخرت بأنها الأفضل، بل جاءت هزيمة منتخبات عريقة على يد وأقدام منتخبات عربية، تقدمت الصفوف بشكل أبهر العالم وفاجأه.
على أمل أن تواصل شعوب العالم الثالث تقدمها وتطورها في مجالات أخرى إلى جانب الرياضة، في الثقافة والفنون والفلسفة والعلوم والعمارة والهندسة والاختراعات، وصولاً إلى اندماج الحضارة العالمية وانصهارها في بوتقة الإنسانية، على أمل أن تحمل وبنفس القدر كل ما يلزمها من الأخلاق والقيم الإنسانية والقوانين الناظمة.