ملف المونديال..!!

izhM5.jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

 

انتهى المونديال القطري يوم الأحد الماضي. ومع ذلك، من المُستبعد أن ينتهي ما أثار من ردود أفعال وتداعيات في وقت قريب. لستُ من هواة ومتابعي كرة القدم، ولكن جملة مصادفات دفعتني إلى ملاحقة المباريات، وأخبارها، والتفرّغ لمشاهدتها، بما فيها الحاسمة والختامية، بالبث الحي على شاشة التلفزيون، والذي شاءت الظروف أن يكون الألماني.
أوّل ما يتبادر إلى الذهن، في هذه الصدد، أن الناس في أربعة أركان الأرض يشاهدون المباراة نفسها، ولكن انطباعاتهم عنها تختلف باختلاف اللغات، والسياسات، والمعلّقين. لذا، لا يبدو أن ثمة مجازفة في القول: إن كثيراً من التأويلات عالية النبرة، والملفقة في الغالب، التي ترددت أصداؤها عبر منابر إعلامية مختلفة في العالم العربي، لم تجد لها مكاناً في منابر الإعلام الغربية. ومعنى هذا الكلام، أن "العرب"، كالعادة، في واد والعالم في واد آخر.
ومما له دلالة، في هذا الشأن، ما وقع في الأيام الأخيرة، وتمثّل في اعتقال نائبة رئيس البرلمان الأوروبي، وآخرين، في بروكسل، بتهمة تلقي رشى وهدايا من قطر مقابل تحسين صورتها في موضوع العمالة الأجنبية، وحقوق الإنسان. وبهذا المعنى، أُضيفت صفحات جديدة إلى ملف المونديال القطري، وما رافقه من تحقيقات واتهامات، على  مدار عقد من الزمن.
وقد حضر الملف المذكور بكل صفحاته القديمة والجديدة، بكثافة في منابر الإعلام الغربية على امتداد أيام المونديال القطري. أما في وسائل الإعلام العربية (وكلها مملوكة للإبراهيميين، ما عدا الرسمية في الحواضر، وهي ليست أفضل حالاً)، فقد جاء بصورة عرضية تماماً، وفي سياق التنديد بازدواجية الغرب، وحملاته الظالمة، على "المسلمين" في الغالب.
وفرضيتي الرئيسة في هذا الشأن أن الحاسم في هامشية وتهميش ملف المونديال، في وسائل الإعلام العربية، لم يكن الخجل منه، أو محاولة التقليل من شأنه، بل حقيقة أنه لا يحظى باهتمام المستهلكين العرب. فالغالبية العظمى من هؤلاء لا تعتقد أن الاتهامات صحيحة، من حيث المبدأ. وإذا افترضت، نظرياً، أنها صحيحة، فليس فيها ما يستنفر عرقاً نافراً في الحقل الدلالي للأخلاق السائدة.
وبهذه الفرضية نكون قد أمسكنا بالثور من قرنيه، كما يُقال، إلا أن هذه الحقيقة لا تعفي من ضرورة الاعتراف بما في تعبير "الأخلاق" من التباس وتعقيدات. فالأخلاق، عموماً، هي ما يمثل مرجعية التعرّف على، وتعريف، الصواب والخطأ. وقد تكون المرجعيات دينية (لا تسرق، لا تزن) أو دنيوية خالصة (كأن نقول أخلاق المهنة، مثلاً). وبقدر ما يتعلّق الأمر بالنسق العربي ـ الإسلامي فلا وجود لمرجعية أعلى مِنْ، أو تنوب عن، مرجعية الصواب والخطأ، بوصفهما حلالاً وحراماً عابرين للجغرافيا والثقافات والزمن، لا بوصفهما تعبيرين دنيويين تحكمهما ضوابط قانونية وتشريعية متغيّرة.
وبهذا المعنى، تختلف الأخلاق عن القيم (على الرغم من إمكانية تحويل الأخيرة إلى مركّبات أخلاقية، والكلام عن وجودها في ضوابط عامة للسلوك)، والمهم في موضوع القيم أنها ذات خصوصيات فردية، تخص هذا الفرد أو ذاك، أو تتجلى كعامل مُوّحد لدى مجموعة من الناس، بصرف النظر عن ماهيتها، وصحة وجودها، ومدى تمثيليتها. وفي سياق كهذا، نتكلّم عمّا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قيم كونية عامة.
القيم متغيّرة، وعلى الرغم من إمكانية الكلام عنها، والتدليل على وجودها منذ فجر التاريخ، إلا أنها ابنة الأزمنة الحديثة بقدر ما يتعلّق الأمر بدلالتها السياسة وتجلياتها الاجتماعية، وضوابطها القانونية. فالحرية، والمواطنة، والمساواة، وحقوق الإنسان، والانتخابات، والدستور، والتداول السلمي للسلطة، قيم حديثة تماماً.
والواقع أن طغيان الحلال والحرام على الحقل الدلالي للصواب والخطأ لا يُعرقل تعزيز وتكريس قيم حديثة وحسب، بل ويُسهم في تقويض البطانة الأخلاقية للسلوك العام، أيضاً، ناهيك عمّا ينجم عن أمر كهذا من ازدواجية عضوية وبنيوية في آن.
فمن الشائع، مثلاً، ألا تثير حالات من الفصام الأخلاقي كالغش في الامتحان، وحل مشكلة ما بـ"الواسطة"، أو الرشوة، والكذب، نوعاً من تأنيب الضمير. ومن الشائع، مثلاً، ألا ينتبه القائل بكراهية الغرب للإسلام والمسلمين، إلى التمييز ضد غير المسلمين في بلدان عربية وإسلامية مختلفة. ويجب ألا ننسى، أبداً، صدمة المسيحيين في الموصل، عندما اكتشفوا وجود من كانوا جيراناً لهم، قبل "داعش"، بين المحرضين على قتلهم، وطردهم، وناهبي بيوتهم.
وثمة، هنا، مشكلة مزدوجة، وعويصة فعلاً. فهذا النوع من الفصام وثيق الصلة بأنظمة قائمة. فلا يمكن الدفاع عن، وحماية، وضمان ديمومة، أنظمة تنتمي إلى القرون الوسطى، بقيم حديثة. والكارثة أن طفرة النفط لعبت دوراً أساسياً، منذ أواسط السبعينيات، في تعميم ثقافة الإبراهيميين، وملاحقة القليل ممّا تراكم من ميراث عصرَي التنوير الأوروبي والعربي، في الحواضر.
وبناء عليه،  فلنفكر في تهميش وهامشية صفحات أساسية في ملف المونديال، وحقيقة أنها لم تنل ما تستحق من الاهتمام، في الحواضر العربية، لأنها لا تدخل في اهتمامات مواطنيها، مقارنة بما تجلى في وسائل الإعلام الغربية، كظاهرة مُقلقة تستدعي أن نفتح معها ملف الأخلاق والقيم.
أما إلهاء المستهلكين "العرب" بالكلام عن فلسطين (سنأتي على شكوى الإسرائيليين في معالجة لاحقة) بوصفها "الفائز الأكبر" في المونديال، فنرجو من قائلي هذا الكلام تذكير الفلسطينيين بقيمته العملية، وطريقة صرفه في سوق السياسة، عندما يصب الإسرائيليون حممهم على غزة في الحرب القادمة، أو كلما أضافوا قتيلاً جديداً إلى عدد ضحاياهم، أو سرقوا متراً إضافياً من الأرض، في الضفة الغربية؟