العامُ الجديد!

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبدالمجيد سويلم

 

 

أوّل ما يتبادر إلى الذهن على أبواب كل عامٍ جديد هو التوقعات.
والتوقعات في بعدها السياسي، وفي تطوراتها ومتغيّراتها الأشمل تبدو هذا العام غاية في الصعوبة والتعقيد، وذلك لما حملته الوقائع في العام الذي يُشارف على تسليم «ملفّاته» للعام القادم من أزمات وتطوّرات، ارتسمت بالطابع الدراماتيكي والمُتلاحق والمُتسارع، بصورةٍ لم نشهد مثيلاً لها منذ أكثر من ثلاثة عقود على أقلّ تقدير.
إذا بدأنا بالوضع الدولي، فما هي التوقعات المرتقبة للعام الجديد في ضوء ما انتهت إليه وقائع هذا الوضع مع نهايات العام الحالي؟
التوقع الأكبر ــ كما أرى ــ هو أن الحرب في أوكرانيا سيشتد أوارها في الأشهر الثلاثة أو الأربعة القادمة لكي يتم التفاوض على نتائجها التي تكون قد فرضت نفسها في ميدان المعارك.
ليس خافياً أبداً أن الغرب بات يُدرك الأهمية الحاسمة لسير المعارك في هذه الشهور بالذات، وهو ــ أي الغرب ــ بات مُتيقّناً من أن نظام الدمية في كييف يحاول «جرّ» هذا «الغرب» إلى التورّط أكثر فأكثر في هذه الحرب، بسبب ما ينتاب هذا النظام من مخاوف جدّية على مصيره المحتوم، إذا بقيت المواقف الغربية عند حدود مدّه بالأسلحة الدفاعية، حتى وإن وصلت إلى تسليمه المنظومات (باتريوت) أو أي أسلحة أُخرى من هذا القبيل.
الغرب حسم أمره بعدم التورّط المباشر بهذه الحرب، وقرّر مدّ أوكرانيا بأعلى وأحدث الأسلحة الدفاعية التي تمكنها من «الصمود» بهدف منع القوات الروسية من حسم المعارك بصورةٍ نهائية لصالحها، مع الاستمرار في الضغط الاقتصادي على روسيا بما في ذلك الخطوات الاستعراضية، والقفزات البهلوانية الجديدة حول سقوف أسعار النفط والغاز.
بالمقابل بات واضحاً أن روسيا بدأت بمراجعة خطط الجيش، وفي هذه الأيام بالذات تتّخذ هذه القوات القرارات الحاسمة المطلوبة لإنهاء الحرب في الربيع القادم بعد فرض الوقائع «المطلوبة» على الأرض.
في هذه الأشهر الأولى من العام الجديد ستشهد أوروبا كلها موجات متلاحقة، وقد تكون متسارعة من الاحتجاجات، وربما الاضطرابات التي ستُحدث من الأزمات ما سيفضي إلى متغيرات سياسية كبيرة هي الأخطر والأهم منذ الحرب العالمية الثانية كما انتهت إليها تلك الحرب آنذاك.
إذا صحّت هذه التوقعات فإن عالم القطبية الأُحادية سيودّع هذا العالم، وسيُصار إلى «ترتيبات» جديدة ستطال المعالم الرئيسة لحالة التعددية القطبية، بما في ذلك الأحلاف والتكتلات الجديدة، والمحاور المستحدثة بما في ذلك بعض الأشكال الجديدة من «عدم الانحياز»، أو «روابط البلدان المستقلة»، وبما سيفرض سمات ومعالم جديدة «للأمم المتحدة»، وكافة مؤسسات «المجتمع الدولي» ومؤسسات العلاقات الدولية والقانون الدولي.
سيحاول الغرب إعاقة هذا المسار، وهو يحاول فعلاً، والولايات المتحدة تحديداً تستميت في هذه المحاولة، لكن كل الوقائع تتطور بصورة «موضوعية» نحو هذا العالم الجديد، في هذا العام الجديد.
هنا يجدر التوضيح أن لا أحد يستطيع تغيير القوانين الموضوعية عندما تصل إلى درجة التحوّل إلى «قوانين» موضوعية، وأن كل ما يمكن القيام به هو «التكيُّف» مع هذه القوانين، وليس أكثر، والأكثر قدرة على هذا التكيُّف هو الذي سينجح وينتصر قبل غيره.
ولذلك فإن الفكر السياسي على المستوى الكلّي هو «المطالب» بتحديد فيما إذا أصبحت التغيّرات والتحوّلات في الوضع الدولي وبلغت ونضجت إلى درجة الوصول إلى «قوانين موضوعية الطابع».
في الوضع الإقليمي فقد بات واضحاً تماماً أن انعكاس الحالة الدولية على الإقليم سيؤدّي بالضرورة إلى بروز ثلاث نتائجٍ كبيرة في هذا الواقع الإقليمي:
الأولى، أن دول الخليج العربي لم تعد «مستعدة» لأن تكون «أداة» طيّعة في يد الغرب، بل ليست، ولم تعد «ورقة» من أوراق اللعبة الغربية، والأميركية تحديداً وتخصيصاً.
وسواء كان هذا الواقع الجديد يعود «لعنجهية» الغرب التي وصلت إلى حدود غير «مقبولة» من الاستهتار بالعرب في الخليج، بل التهديد بعقابهم على عدم الامتثال التام، أو سواء أن العرب قد أدركوا أن هذا الامتثال بالذات سيكون «مقتلهم» فإن النتيجة واحدة، وهي أن العرب باتوا ينزعون إلى «النأي» بالنفس عن الصراعات الدولية، ومحاولة الوقوف بقدر ما هو ممكن على نوعٍ من الحياد، خصوصاً أن هذا الحياد يحقق مصالحهم بصورة مباشرة.
وهذا المتغيّر هو بكلّ المقاييس واحد من أهمّ المتغيّرات التي طرأت على الإقليم، ويكفي بهذا الصدد التأمُّل في القمم مع الصين.
أما الثانية، فهي أن «الاتفاقات الإبراهيمية» فقدت بريقها، ولم تعد تمثل اتجاهاً طاغياً أو سائداً كما كانت تبدو عليه خلال العام المنصرم، بل باتت «تحتاج» إلى قوة دفع جديدة وكبيرة حتى تصمد أو تتقدّم إلى الأمام.
لا يوجد في الأفق السياسي الإسرائيلي، ولا الأميركي ما يعزّز من قوة الدفع هذه، إن لم نقل إن العكس هو الصحيح، لأن كل ما يوجد في الأفق هو عناصر وعوامل لقوة دفع مضادّة في القدر وفي الاتجاه، خصوصاً أن الشعوب العربية قد «بايعت» فلسطين البيعة الكبرى والوثقى في «المونديال الأخير».
والثالثة، هي الاتفاق النووي الإيراني الذي تمّ تأجيل «القرار» بشأنه إلى ما بعد نتائج الحرب في أوكرانيا.
واضح أن الغرب بات «واثقاً» من أن إيران لن تقايض صناعاتها العسكرية بالاتفاق، وبات متيقّناً من أن تحالفها مع روسيا والصين أكبر بكثير من أي مراهنة إيرانية بديلة، وباتت إيران على قناعةٍ بأن هذا الغرب لم يعد بإمكانه «تقويض» النظام بالقوة العسكرية، ودليلها على ذلك هو أن كل تركيز الغرب أصبح ينصبُّ على مراهنات تقويضها من الداخل الإيراني.
بهذا المعنى فإن تأجيل البتّ والقرار بالاتفاق النووي الإيراني هو متغيّر كبير، لأن مصلحة إيران باتت تتمثّل في «تدويل» هذا الملفّ بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا.
رابعة وأخيرة، الوضع الفلسطيني والصراع مع دولة الاحتلال. في هذا الإطار يمكن تسجيل النزعات والاتجاهات التالية في قراءة هذا الواقع، وفي استحضار سماته الرئيسة:
1ـ التطوّرات الأخيرة في الواقع الإسرائيلي بعد الانتخابات أفرزت وقائع وحقائق جديدة أظهرت «العقل الباطني» للمشروع الصهيوني إلى العلن، وتحوّل إلى المظهر السياسي الأكبر، وإلى تحكّم هذا المظهر السياسي بالدولة وبالنظام السياسي في دولة الاحتلال، وأصبح المسؤول الأوّل والمباشر عن السياسات، والتي حدّدت بصورة لا تقبل الجدل بأن «حقوق» الشعب الفلسطيني بات سقفها الأعلى هو «إدارة محدودة الصلاحيات على السكان، وخضوع أمني كامل لإسرائيل»، وإلّا.. الفتك والبطش تحت طائلة الترحيل.
لم تعد إسرائيل بحاجة إلى «وكيل أمني»، ولا إلى «وكيل سياسي»، ولم تعد معنية إلّا بالسيطرة الكاملة، وكل من يسهّل لها ذلك فلديها بعض الاستعداد للإبقاء عليه، وكل من يُعيق طريقها فسيتمّ خنقه والإجهاز عليه.
أثبت العام المنصرم أن الأفق السياسي قد أُغلق بالكامل، وأُفق «المقاومة» بالصواريخ بات مجرّد ملهاةٍ سياسية، ولعبة خطرة لا يقوى أحد على أكثر من التلويح بها.
فقد النظام السياسي الفلسطيني شرعيته الرسمية، وفقد صدقيته الجماهيرية في الضفة وفي القطاع، والاهتمام الشعبي لم يعد هو إنهاء الانقسام ــ بعد أن فقد الشعب أي ثقةٍ بجدّية الأطراف المسؤولة عن هذا الانقسام بإنهائه ــ وباتت الحالة الشعبية تبحث فقط عن كلّ ما يمكن أن يتحوّل إلى تعزيز حالة الصمود الوطني، وإلى إبقاء جذوة المواجهة مع الاحتلال، وبصرف النظر عن شكل التعبير عن هذا التوق نحو هذا «التعلُّق» الفلسطيني بهذا الأمل.
الفصائل في وادٍ غير واد الشعب، والقوى ما زالت غائبة عن المشهد الحقيقي للصراع، وعن الميادين الرئيسة لهذا الصراع، حتى وإن اعتقدت غير ذلك وعكس ذلك. الحامل الوطني لمشروعنا التحرُّري بات افتراضياً، دعونا نُحاول في المقال القادم ملامسة التوقعات «الفلسطينية» في العام الجديد، وكل عامٍ وأنتم بخير.