قبل حوالي نصف قرن من الزمان العربي، وضع الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب قصيدته الخالدة "الاساطيل" والتي أتى فيها على ذكر معارض سعودي لم يكن معروفا من قبل، اسمه ناصر بن سعيد ، يقول فيها "ويا ناصر بن سعيد / اذا كنت حيا بسجن / و إن كنت حيا بقبر / فأنت هنا بيننا ثورة عارمة". وقد فتح هذا المقطع الباب أمام فهم متقدم للطريق المار بين السجن والقبر ، وأعاد للذاكرة المأثور الشعبي من ان السجن هو قبر الدنيا ، حتى ظهر لنا ناصر ابو حميد في اصابته بالمرض الخطير سرطان الرئة قبل حوالي سنة ، والمحكوم بسبع مؤبدات عدا خمسين سنة "متفرقات" ، امضى منها نحو عشرين سنة عدا عن بضع سنوات قبل ذلك "متفرقات" .
لم يتسلل الشك الى قلوب الغالبية العظمى من ابناء الشعب الفلسطيني ان تقوم دولة الكيان باطلاق سراح ناصر ليقضي أيامه الاخيرة بين احضان عائلته ، باستثناء حفنة من الواهمين الموهومين المسكونين بأضغاث احلام السلام بينهم وبين دولة الاحتلال، حتى لفظ ناصر انفاسه الاخيرة عن عمر ناهز الخمسين سنة، امضى اكثر من نصفها وراء القضبان ، ويبدو ان قادة الكيان عرفوا متى يلفظ ناصر آخر أنفاسه ، فسمحوا لوالدته العملاقة وبقية افراد أسرته بزيارته لآخر مرة ، متدخلين هنا في شؤون الله رب العالمين وحده الذي يعرف ساعة موت النفس وفي اي ارض تموت . اللهم لا اعتراض على حكم الله وقدره في المرض والموت ، فكلنا خلقنا لنموت ، وهذا ما سلّمت به "ام ناصر" ، وحمدت ربها على صنيعه واحتساب ابنها شهيدا عنده فيلتقي "عبد المنعم" شقيقه الذي سبقه الى هناك ، لكن ان تمعن دولة الاحتلال في معاقبة ناصر وعائلة ناصر وحزب ناصر وشعب ناصر ، فهذا أمر يفوق الخيال ، و يعد تمردا على قوانين الارض وقوانين السماء على حد سواء ، ما قالته "انتيجون" ابنة الملك اوديب قبل ما يزيد على ألفي سنة لخالها "كريون" الذي استولى على الحكم من اخيها "بولينيس" اعدمه بتهمة التجسس زورا ، ومنع دفنه . قالت له : اذا كانت قوانينك تسمح بمنع دفن اخي، فإن قوانين السماء تمنع ذلك . حتى في اسرائيل دعت صحيفة "هآرتس" الى وقف المتاجرة بجثث الفلسطينيين وعدّته عملا حقيرا . أما مظفر النواب فقد رفض فكرة موت العظماء سواء كانوا في القبر او في السجن، فما بالكم مع ناصر ابو حميد احد هؤلاء العظماء، الذي عبر من السجن الى الموت دون ان يمر بقبر، ليس حيا في سجن ، وليس ميتا في قبر، بل ، "انت هنا بيننا ثورة عارمة" ، كأن مظفر النواب يقصد ناصر بن حميد أكثر مما قصد ناصر بن سعيد، وسيتعزز هذا اذا ما أطلقت حركة "فتح" على احتفالات انطلاقتها المقبلة انطلاقة ناصر ابو حميد .