تناقض العلاقة بين الدين والدولة في إسرائيل

حجم الخط

بقلم: الأسير  أسامة عودة

 

في الكتاب الثالث من التوراة فصل 38، ثمة قصة تقول بأنه (عندما حكم بلاد فارس الملك "دريفس" جمع اليونانيين الذين عاشوا في مملكته وسألهم إذا كانوا يوافقون على أكل جثث أمواتهم، فأجابوه حتى لو أعطيتنا مال الدنيا لن نوافق، ثم استدعى أبناء قبيلة "كالات آية" الهندية، الذين من عاداتهم أكل جثث موتاهم، وسألهم على مسمع من اليونانيين هل توافقون على حرق جثث موتاكم مقابل أي مال تطلبونه؟، فانفجروا بصراخ وزعيق واستجدوه أمامه لئلا يذكر مثل هذا الكلام).


من هنا يمكن أن ندرك ماذا يمكن للعادة أن تفعل. وقد كان فيندر محقّاً حيث وصف العادة بأنها (الملك الذي يحكم الجميع).


جدلية الدين والدولة في عالمنا المعاصر ونُظُمِه السياسية تحمل بين ثناياها كثيراً من التناقضات، وأكثر من الموافقات، حتى إنها أصبحت تكوِّن فضاءات جديدة تنمحي فيها وفقاً لآراء المفكرين السياسيين وعلماء الاجتماع ،الحدود الطبيعية ما بين الدين والدولة، وبالتالي اختلاطها مع التقاليد وعادات الأفراد في المجتمع. فهنالك علماء اجتماع يقولون بأن التقاليد المشتركة لأي شعب أو مجتمع هي شرط وضرورة أساسية لبقائه وتطوُّرِه بصورة أمثل، وأن المجتمعات والشعوب التي فقدت ثقافتها وتقاليدها المشتركة تراجعت وانهارت. وكما يقال في المثل الدارج (البئر الفارغة من الماء تعيش فيها الأفاعي والعقارب).


وهذا ما ينطبق على المجتمع الذي يفقد الثقافة المشتركة والمصير الواحد، سواء كان ذلك في حدود الدولة السياسية وطبيعتها ونظامها السياسي والاجتماعي وبنية أحزابها وما يصدر عنها من قوانين وتشريعات وآليات للتعبير أو في حدود دينها، وما هي مساحة استيعاب هذا الدين لمكوِّنات المجتمع.
فالأيديولوجيا والقيم والأفكار الحديثة استُبْدِلَتْ في النقاشات والحوارات المجتمعية، وأصبحت ذات أهمية في موازين القوى والمصالح بشكل فردي وجماعي، وبالتالي ظهر وفقاً لهذا تراجعٌ للدِّين لصالحها. الأمر الذي جعلها تُشكِّل تقاليد مختلفة ولَّدت عادات قادها النظام السياسي وتكوَّن المجتمع وفقها. ولهذا فإن الصراع بينهما ما زال قائماً وملآن، والفراغ يتجدد وفقاً لمصالح الجماعات والأفراد، ولم يحسم الموقف أحد بعد. وفي حالة دولة الاحتلال الإسرائيلية والعلاقة الجدلية فيها ما بين الدين والدولة وبالتالي تكوين تقاليد مجتمعية وعادات من خلفها أيديولوجيات دينية ولا دينية وتشرف على تشكيلها دولة مركزية قوية وحتى هذه اللحظة هي سيدة الموقف، فهل ما زالت في دولة الاحتلال حدود واضحة للعلاقة ما بين الدين والدولة؟ وإذا كان ذلك، فماذا يعني؟ إذن قول رئيس "الشاباك" بحضور قائد الاستخبارات العسكرية المعروف (المقدر القومي) ورئيس الموساد وطغمة من القادة العسكريين والأكاديميين وباحثين في الأمن القومي وأصحاب رأي وشأن في دولة الاحتلال، ومن على منصة أحد مراكز أبحاث الأمن القومي بأن هناك (خطراً وتوسعاً في الفوارق الاجتماعية بسبب القضايا السياسية وخطابات تفرقة ومصالح متفاوتة بين الأطراف، الأمر الذي يهدد طبيعة وتركيبة وسلامة المجتمع). وبالتالي، فهذا الأمر يشكِّل تهديداً مركزياً ووجودياً لا يقل عن التهديدات الأمنية التي تحيط بدولة الاحتلال.


واستناداً لذلك، برزت تساؤلات عدة من مفكرين وسياسيين وقادة وأصحاب رأي في دولة الاحتلال الإسرائيلية حول قضايا مركزية، والموقف منها متفاوتٌ، وتشَكِّل هذه القضايا الآن أسس تناقض مجتمعي، ومنها تعاطي حكومة الاحتلال مع "يهودا والسامرة" كما يقولون، أي الضفة الغربية. فهذه تسمية تعود للمملكتين الأولى والثانية، وهناك تساؤل كبير حول ماهية تلك المملكتين، هل هي دينية أم سياسية! وما المقصود منها ومن التعامل معها اليوم، وأيضاً قانون القومية الذي تم إقراره في الكنيست الـ20 من العام 2018، واستناداً له كيف سيجري التعامل مع مواطني دولة الاحتلال العرب، دروز ومسلمين أو مسيحيين أو شركس ويشكلون معاً ما يفوق 21% من نسبة السكان؟! وأيضاً قضية الأعياد والتعامل معها والالتزام فيها، فمثلاً صوم يوم رأس السنة كما يقولون بأنه تخليدٌ لذكرى مقتل (جيتالياهو ابن الحكم) في المئة السادسة قبل الميلاد، فماذا يعني هذا، ومن هو (جيتالياهو)، هل هو نبي من أنبياء إسرائيل أم قائد تاريخي؟! وإذا كان الأخير، فلماذا يُفرض صوم رأس السنة دينياً على كل اليهود؟! وهل التزامهم بصومه عادة وتقليد أم تدين؟!


أحد أبرز الكتّاب في إسرائيل، ويُدعى (إيلان غور) يقول: اليهودية لا تكتمل إلا في المنفى، ويعتبر بإنكار الصهيونية (لديسبوراه) أي المنفى نهاية لروح اليهودية، ويرد عليه في هذا السياق كاتب مهم أيضاً ويدعى (يهوشوع) بقوله: إن اليهودية لا تكتمل إلا في وجود اليهود، في أرض إسرائيل، أي إن المنفى ينقص من يهودية اليهودي. ولهذا هل يمكن اعتبار إسرائيل منفى قسريّاً بروح اليهودية أم اكتمالاً لها؟

 

 هذا التناقض في العلاقة ما بين الدين والدولة وتوريد عادات وتقاليد تكمل الفراغ، في الحالتين يحكم هذه العلاقة، ويؤكد وبشكل لافت عدم قدرة هذا المجتمع على خلق صالح عام ومشترك وبحدود متفق عليها، الأمر الذي جعل الأجندة التربوية لليمين الجديد في إسرائيل ومنذ نشأة هذه الدولة وبتجاوزاتها للتعاليم الدينية وفقاً لما تم عقده من اتفاقات بين الحالة الدينية لليهود والصهيونية العالمية، وذلك لأهداف استعمارية باعتبار الدولة المقربة للخلاص الإلهي؛ أي ما اصطُلِحَ على تسميته في حينها (حمار المسيح).


والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، وحتى يومنا هذا يمارس الحاخامات وقادة الأحزاب والطوائف الدينية في دولة الاحتلال منحى واحداً لقواعد العلاقة ما بين الدين والدولة لأهداف شخصية وحزبية، حرفوا من خلالها ما هو محرَّف أصلاً من نصوص توراتية للملاءمة بين مطالب الاستعمار والاستقرار على هذه الأرض لحصولهم على امتيازات شخصية من هذه الدولة. 

 

وعليه، وبهذا السلوك زاد حجم التناقض الفعلي بين الدين والدولة، وبالتالي تعزز الشرخ وتكونت ثقافة منفصلة لم تكن صمغاً لاصقاً لثقافات متعددة داخل مجتمع دولة الاحتلال، وولدت هذه التجاوزات سياسات وقيماً مشتركة لا صالح عام فيها، ولا يرى فيها كل أقطاب المجتمع مصلحة قد يتطورون من خلالها، وفيها إرادة مشتركة محمولة بكثير من الخطط والمصالح الفردية وتتطور بعيداً عن أي ضابط وناظم لهذه العلاقة، الأمر الذي يجعل تركيبة هذا المجتمع بفوارقه العميقة يؤسس لحياة متباعدة العادات، ولا مصير مشتركا يوجد فيها، ولا قدرة لدين ولا لدولة على الحكم مستقبلاً.

 

 وعليه فإننا قد نشهد قريباً انهياراً فعلياً لقواعد هذه الدولة بعدما تبين لنا انهيارها الأخلاقي والقيمي والديني والسياسي والاجتماعي.