بعد سلسلة طويلة من إجراءات عذابية فاشلة ، مشوبة بموجات من خيبات أمل غير خافية على أحد ، قررت أم الشهيد الاسير المريض بدون جثمان ، قررت على ما يبدو ان تواجه سلطات الاحتلال وحدها ، حين دعت الى مسيرة ضحى اليوم الثلاثاء من أمام مخيمها في رام الله ، مخيم الامعري، متوجهة بتابوت فارغ الى حاجز قلنديا ، داعية بقية "زميلاتها" من امهات الشهداء المحتجزة جثامينهم في قبور الارقام و ثلاجات الموتى ، والذي يناهز تعدادهم نحو اربعماية جثمان ، و الفصائل الفلسطينة الى الحضور والمشاركة .
لقد سلّمت هذه الام الجبارة والعملاقة برحيل ابنها عن الدنيا بعد رحلة عذاب مع مرضه استمرت سنة كاملة ، أملت خلالها ان يطلق سراحه لتمكينه من علاج ناجع ، ثم صلت لربها ان يشفيه من عضاله داخل قيده ، فلا كان هذا ولا كان ذاك ، و ظهرت غداة الرحيل امرأة قوية صابرة محتسبة ، نعته برجولة لا يقوى عليها الرجال ، شهيدا عند ربه ، ملتحقا بشقيقه "عبد المنعم" . ثم جاءت الطامة الكبرى عدم تسليمها جثمانه ، هنا ، أغرقوا سفينة حزنها ، و تركوها تتخبط في الأمواج العاتية وحدها ، فأعلنت اولا عدم تقبل عزاءها قبل تسلمها ابنها فلذة كبدها و مواراته الثرى بجانب شقيقه ، لم يتفهم زعماء الثورة والفصائل في رام الله و غزة والخارج خطورة قرارها ، فاتصلوا بها يعزونها رغم معرفتهم انها اغلقت باب العزاء . ثم جاء قرارها الثاني المتعلق بالمواجهة ، معتمدة على من تبقى من ابنائها واحفادها بتابوت فارغ .
دعوة الانطلاق من امام مخيم ، لها مدلولاتها السياسية والنضالية ، فهناك تسعة عشر مخيما في الضفة و تسعة مثلها في غزة ، ناهيك عن عشرات مخيمات الشتات في الاردن و لبنان و سوريا ، لم تقدم لهم مسيرة السلام التي دشنت في اوسلو قبل ثلاثين سنة اي حل يذكر لعودتهم ، خصت ام ناصر حركة فتح من بين الفصائل ، قالت لهم ، أعيدوا لي "ناصر" الذي أخذتموه مني صغيرا ، أعيدوه لي حتى لو كان جثمانا ، بعض المتصدرين اعتبروا هذا التخصيص مسا بالحركة ، لكن الاكثر وعيا و صدقا و حرصا وانتماء ، نظروا الى التخصيص بمثابة دعوة الى عودة البدايات العظيمة ، يوم كانت الحركة تشكل العمود الفقري للثورة بكافة فصائلها المقاومة ، يوم كانت بالتالي تشكل رأس الحربة لجميع حركات التحرر في العالم ، والتي حررت جميعها بلدانها من ربق المستعمر ، ما عدا ثورتنا التي سقطت ما بين الدولة والثورة ، فلا على دولة حصلت ولا على ثورة أبقت .
دعوة ام ناصر ، تأتي من معمعان الالم والتضحية والفداء و المخيم ، كأنها تقول : ما قاله الشاعر الكبير مظفر النواب : ايها الناس ، هذي سفينة حزني ، و قد غرق النصف منها قتالا ، بما غرقت عائمة / اجمعي أمة الحزن ، واستأمنيها المفاتيح دهرا فدهرا ، فمهما بدت للوراء تسير بها النكبات ، هي الامة القادمة / أمي هي الانهر الحالمة ، و أمي التي علمتني على الصبر آنئذ ، علمتني على الطلقة الحاسمة .