حول شرعية النظام السياسي الفلسطيني (2 من 2)

تنزيل (20).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 


ذكرنا في المقال السابق أن أزمة الشرعية مكونة من شقين، الأول: وجود سلطتين، متعارضتين، ببرنامجين متناقضين، وقد أدى ذلك إلى الانقسام السياسي والجغرافي، ما أضعف من الصفة التمثيلية لمنظمة التحرير، وللقيادة الفلسطينية الرسمية، وبالتالي إضعاف الموقف الفلسطيني كله. والثاني: انسداد الأفق السياسي، وتعثر التسوية، مع استمرار سياسات التهويد والضم والاستيطان، وعجز كلا السلطتين عن إحداث أي اختراق سياسي، أو تحقيق منجزات جوهرية، فضلا عن تراجع الروح النضالية، وتراجع سقف الحريات، واستفحال بعض مظاهر الفساد (ربما الوضع أفضل نسبيا في الضفة الغربية، على الأقل من الناحية المعيشية) لكن الاحتلال لا يوفر فرصة لتقويض أي منجز، ووضع العراقيل أمام أي حالة تقدم، بل إنه يتعمد إضعاف "السلطتين"، وترسيخ حالة الانقسام.
مع تفاقم أزمة الشرعية لم يعد النظام السياسي الفلسطيني يمتلك ترف المفاضلة بين استراتيجية وأخرى، فالخيار الوحيد المتاح أمامه، ولا خيار سواه، هو تغليب غريزة البقاء على نزعة الانتحار، وبالتالي ليس أمامه سوى الخروج من أزمته، والإقدام على خطوات عملية واتخاذ قرارات تاريخية تجعله يضع قدميه على بداية السكة، وهذا يتطلب بداية تجاوز حالة احتكار السلطة، والتفكير بعقلية منفتحة، وبروح مسؤولة، ترى المستقبل وتهتم به قبل اهتمامها بالحاضر.
والخطوة الأولى للخروج من الأزمة، تتمثل في إنهاء الانقسام، وهذا شرط تأسيسي، ومن ثم ترسيخ الوحدة الوطنية، والبدء فورا في إصلاح منظمة التحرير، وإعادة بناء مؤسساتها بوظائفها التعبوية الشاملة لطاقات فلسطينيي الشتات، وصياغة إطار نظام سياسي موحد، بروح ثورية جديدة، وببرنامج سياسي مقاوم. وهذا يعني توقف محاولات التعايش مع الانقسام، وجعله "انقساما توافقيا"، كما يحدث الآن عبر جولات الحوار والمصالحة التي لم تفضِ إلى شيء، لأنها تحولت إلى عملية مصالحة تدير الانقسام بدلا من أن تنهيه. والإعلان الفوري عن إجراء انتخابات تشريعية، ورئاسية، وللمجلس الوطني، دون انتظار موافقة الاحتلال على إجرائها في القدس، بل جعل الانتخابات فيها معركة مقاومة شعبية. هذا ما يتعلق بالشق الأول.
ما يتعلق بالشق الثاني، يتوجب اعتماد خيار المقاومة الشعبية، والعمل على تصعيدها وتعميمها، وتبني استراتيجية دفاعية هدفها تثبيت ودعم صمود الشعب فوق أرضه، ورفض أي مناورة سياسية تصفوية. وعلى الصعيد الداخلي: إطلاق حرية الرأي والتعبير، وتحريم كل أشكال الاعتقال والقمع والاستدعاءات السياسية، واتخاذ إجراءات جدية بشأن ملف الفساد، وتمتين الجبهة الداخلية، بخطاب إعلامي وطني موحد.. وهذا يعطي مشروعية للنظام، ويزيد من التفاف الشعب من حوله، ويجعله متفهما لعجز النظام عن اختراق حالة الانسداد السياسي.
وفي التفاصيل، هناك الكثير مما يتوجب فعله: تعميق الشراكة الوطنية، ولكن دون محاصصة، والبدء بهجوم سياسي يستهدف الساحة الدولية، من أبرز عناوينه: مواصلة الجهود الدبلوماسية لجهة توسيع الاعتراف بالحقوق الوطنية، واعتراف المزيد من دول العالم بالدولة الفلسطينية، وتطوير حملة المقاطعة، ودعم جهود حركة الـBDS، وتعزيز حملة مقاضاة إسرائيل وملاحقتها في المحاكم الدولية، وتصعيد حملة معاملة إسرائيل كنظام "أبارتهايد"، وفتح ملف الأسرى، وإنهاء الحصار على القطاع.
وأخيرا، التفكير بشكل إيجابي في قضية ​تغيير الدور الوظيفي للسلطة، بحصرها في تسيير الأمور الحياتية، وإعادة مركز الثقل السياسي إلى منظمة التحرير.
وبما أن العنوان الأبرز لأزمة الشرعية هو وجود سلطتين، الأولى في الضفة الغربية وتقودها "فتح"، والثانية في غزة وتقودها "حماس"، وبالتالي صار ضروريا تحديد مستويين رئيسين نشخص فيهما نقاط الخلاف والالتقاء بين الحركتين: المستوى الإستراتيجي العام، ونجد فيه تباينا طفيفا وأحيانا تطابق شبه تام في رؤية الحركتين وموقفهما من القضايا الكبرى كالتسوية السياسية، ومشروع الدولة الفلسطينية، وفلسفتهما من المقاومة وممارستهما لها، والمفاوضات المباشرة، وكذلك موقفهما الملتبس من الاعتراف بإسرائيل. وفي المستوى الثاني سنجد قضايا وعوامل سياسية وميدانية ذات بعد تكتيكي، ولكنها مهمة ومؤثرة، ومنها تأثير العامل الخارجي، وبناء الثقة بين الطرفين والمرجعيات المؤسسية، إلى جانب القضايا التفصيلية الشائكة والتي نجمت عن الانفصال أو كانت سببا له.
وقد نتفق في النهاية أن كل ما تقدم عبارة عن الشكل الظاهري لتناقض الحركتين، وأنّ جوهره عبارة عن تناقض بين مشروعين: المشروع الوطني القومي، والمشروع العالمي للإسلام السياسي، ولن نتطرق هنا للحكم على المشروعين، ومدى أهمية كل منهما لفلسطين، ولقضية فلسطين، في هذه المرحلة تحديدا.
وطالما أن الهدف السياسي المعلن لكل من "فتح" و"حماس" يكاد يكون متطابقا، فهل ما يجري من خلاف واقتتال بين التنظيمين هو نوع من الصراع على السلطة؟ وصراع على من سيفاوض إسرائيل؟ ومن سيوقع معها الحل النهائي؟ أم صراع على الكراسي والموارد والثروة ومناطق النفوذ كما يجري في الكثير من بلدان العالم؟! وطالما أن السلطة التي يجري الصراع عليها هي سلطة تحت الاحتلال وبلا صلاحيات ولا تمتلك موارد ولا ثروات حقيقية، فهل هؤلاء المتصارعون مجانين وعميان؟! الحقيقة أنهم ليسوا كذلك بالمطلق، ولكن الموضوع له علاقة بما هو بعد السلطة وبما هو أبعد من البرنامج السياسي.
وصار واضحا لدينا من خلال ما تقدم بأن صراع "فتح" و"حماس" هو صراع بين مشروعين مختلفين: المشروع الوطني التحرري الذي تمثله "فتح" ومعها فصائل منظمة التحرير ذي الطبيعة الوطنية والساعي لبناء دولة فلسطينية ومجتمع مدني، ومشروع الإسلام السياسي الذي تمثله حركة حماس وحلفاؤها ذي الطبيعة الدينية والساعي لفرض القضايا الأممية الكبرى (المشروع الإسلاموي العالمي) على حساب المشروع الوطني.  
قد يرى البعض أن انتصار أحد المشروعين يعني خسارة الآخر، وهذه حقيقة نسبية، ولكن السؤال الذي يبرز فورا هو: انتصار مَن على مَن؟ انتصار "فتح" على "حماس" أو العكس؟ أم انتصار أحد الطرفين على إسرائيل؟ والفرق كبير جدا بين الحالتين، فقد يتمكن فصيل من إلحاق هزيمة عسكرية بالآخر كما فعلت "حماس" في غزة في صيف 2007، ولكن هذا لم ولن ينهي الصراع لا بين الفصيلين الشقيقين ولا مع الاحتلال، بل هو حتما يؤخر أو يعطل بل ويمنع انتصار أي من الطرفين على الاحتلال، لأنه من البديهي أن الانتصار على الاحتلال يتطلب أولا وقبل أي شيء آخر توحد الفصيلين على أرض المعركة في مواجهة الاحتلال، وتوظيف كل إمكاناتهما التنظيمية والعسكرية والجماهيرية والسياسية ضمن استراتيجية موحدة تذوب فيها كافة التناقضات الفرعية والهامشية. وغير ذلك ستظل أزمة الشرعية قائمة، ومستفحلة.