اقتربت نهاية العام، وأصبحت عبارة «حصاد العام» تتردد فى أوساط إعلامية وبحثية ودبلوماسية متعددة. ولا شك أن مفكرين ومتابعين كُثرًا سوف يتعرضون لهذا «الحصاد» بالبحث والنشر، مما سوف يفيدنا نحن القراء كثيرًا. ولهذا سوف أكتفى بإيراد عدد من الملاحظات عن عام 2022، وبالتعبير عن بعض الآمال بالنسبة لعام 2023.
كان هذا العام 2022 عام اليقظة، أو بتعبيرنا العربي عام «الفَوَقان» من الإغماء المجتمعي الذي أُصيب به العالم جراء وباء «كوفيد - 19». عاد الناس يسافرون ويجتمعون ويرتادون المطاعم والمقاهى، ويُقبلون على الشراء ويستعيدون عاداتهم الاستهلاكية (ولو جزئيًا بسبب الأوضاع الاقتصادية الدولية المرتبكة).
كان العام 2022 أيضًا عام التفكير فيما جرى، وتقييم نتائج أحداث العامين 2021 و2022 معًا، وعلاقتهما بفشل النظام متعدد الأطراف في مواجهة «كوفيد»، والتأخر في تعبئة الآليات الدولية في شحذ التعاون الثنائي والإقليمي والدولي إزاءه، وكيفية ضمان عدم تكرار ذلك. وهو ما أدّى إلى تصاعد الحديث عن ضرورة تجديد النظام الدولي الحالي، وإعادة الروح إليه والمصداقية لقراراته والنشاط لآلياته. (يأتى إصلاح أداء مجلس الأمن على رأس كل ذلك). والرأي عندي في هذا الإطار هو أن نظام سان فرانسيسكو وبريتون وودز لم يفشل، بل كان قصة نجاح. أما الفشل فقد جاء مرتبطًا بالدور المرتبك لمجلس الأمن وتراجع دوره فى مجال الأمن والسلم الدوليين، وأسباب ذلك معروفة.. والتعرض لها وعلاجها نشط بالفعل خلال العام الذى ينصرم الآن.
وثمة حدث جديد مهم جرى هذا العام هو دخول الرياضة، وبالذات كأس العالم لكرة القدم، مجال المنافسة العالمية على التميز واستقطاب متابعة الشباب، بل جميع الأعمار على اتساع العالم، وترددت أسماء دول خارج إطار المنافسة السياسية أو الاقتصادية لتخلق إطار منافسة جديدًا هو المنافسة الرياضية التى تؤدي إلى مكاسب إعلامية وسياسية واقتصادية للدول الجادّة فى هذا المجال، تكتمل بها المنافسة فى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.
لقد كانت صالونات الأمم المتحدة، ومنظمات المجتمع المدني مثل «دافوس»، والمؤتمرات الدولية الكبرى مثل «شرم الشيخ»، حلبة اللقاء والتنافس والمواجهة والتراضي. علينا أن نضيف الآن صالونات الرياضة؛ حيث يمكن أن يلتقى الملوك والرؤساء والزعماء ويتحدثون، وربما يتعاقدون.
من ناحية أخرى، انفتح الطريق خلال هذا العام لطرح المسائل التالية:
أولاها- إن انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، أو ما كان يطلق عليهما الغرب والشرق، لم يؤدِّ إلى سلام فاعل ودائم؛ فقد عادت الحرب الباردة وفي باطنها حرب ساخنة في شرق الساحة الأوروبية لتشغل العالم وتهدد حاضره ومستقبل استقراره. عادت الحرب الباردة بين الغرب وروسيا أو القومية الروسية بكل ما يعنيه لغويًا لفظ «القومية» من معانٍ نرى أصداءها في مختلف أنحاء أوروبا كما في يمين المجتمع السياسي الأمريكي. إن عودة غزو الدول الأخرى وصحوة التكتل الغربي بزعامة الولايات المتحدة بقوة وعنفوان مشهودين تعنيان استمرار سبل ووسائل تصرف القوى الكبرى كما كان فى القرن العشرين، ودخول هذه السبل إلى دواليب القرن الحادى والعشرين. إذن إلى جانب ما هو جديد هناك قديم متجدد.
وثانيتها- إن الصدام العسكري القائم في أوكرانيا لن يكون بالضرورة هو الأسلوب المتَّبَع في غمار «الحرب الباردة الأخرى» التى تتشكل أركانها حاليًا بين الولايات المتحدة والصين. ولا يصح أن تغيب عن البال هنا حسابات المصالح المختلفة المرتبطة (جغرافيًا على الأقل) بهذه العلاقة الملتبسة بين الولايات المتحدة والصين، وأقصد المصالح والاستراتيجيات الهندية واليابانية المواجهة للصين بالذات والرافضة (في الحالة الهندية) لسياسات الانحياز المطلق للولايات المتحدة، فهي تتفق مع الولايات المتحدة فى تفاصيل كثيرة فى توجهها إزاء الصين، ولكنها لا تتفق معها فى عموم توجهها إزاء روسيا، مما يضيف مربكات (أستأذن صديقى الدكتور محمود محيى الدين الذى صك هذا التعبير أن يسمح لى باستخدامه) كثيرة إلى الموقف العالمى، قد نرى بعض مظاهرها في العام الجديد. كما لا يصح أن يغيب عن البال احتمالات ظهور أوكرانيا أو أوكرانيات في الشرق الأقصى أرضًا ومياهًا.
وثالثتها- الأبواب فُتحت على مصاريعها أمام الدول النامية في القارات الثلاث: آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية، لتفكر في حركتها السياسية، خصوصًا حركتها الجماعية القائمة على أن التعامل منفردة مع أخطار وتوقعات من النوع الذى طُرح عام 2022 ويتوقع أن يتكثف طرحه فى العام الجديد، لن يكون فعالًا ولا مجديًا، ومن ثم فالبحث عن كيان تجتمع في إطاره ويمكنه أن يمثل مصالحها (المتباينة) أو تجري بين جنباته عمليات تنسيق وتوافق وتعديل لهذه المصالح أصبح ضرورة حيوية. هل يعني هذا إحياء حركة عدم الانحياز التي تشكلت في الخمسينيات والستينيات؟ لست أرى ذلك، بل أرى استحالة ذلك، فالظروف مختلفة... والحرب الباردة ليست واحدة بل اثنتان وبأبعاد مختلفة تمس مصالح الدول ذاتها. وقد يكون من بينها مَن يحبذ الدخول في حركة حيادية إزاء الحرب الباردة مع روسيا، ولكنه يرفض ذلك في حالة الصين أو العكس، والأمثلة هنا جاهزة ومعروفة.. ثم إن مواقف دول العالم الثالث لم تصبح موحدة أو (مسمطة) بل أصابها التباين بل الاختلاف، وتفاصيل ذلك تسكنها الشياطين من كل نوع ولون وحجم.
إن الأمر يتطلب فعلًا حديثًا جادًا على موائد أو طَبَالي العالم الثالث، وإلى حسابات نُجريها، بعضها دقيق للغاية، جرى رسمه بالفعل فى حالة روسيا، فقد وقفت أغلبية دول العالم الثالث ضد الغزو الروسي، ولكنها لم تقبل بأن تكون جزءًا من مقاطعة روسيا أو معاقبتها.. والتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة أوضح تلك الخطوط المتحركة والتبادلية بشكل جيد. فهل يمكن أن ينطبق ذلك على الحالة الأمريكية - الصينية؟ وهل نحن متوجهون إلى صياغة المواقف حالة بحالة مثلًا؟.. ثم إن أي تجمع من هذا القبيل يحتاج إلى زعامات تحرّكه وتقوده... الهند ليست جاهزة، وبسبب الموقف الخاص بالصين، وبسبب التحفظ على بعض - وليس كل - السياسات الأمريكية العالمية وفى آسيا خصوصًا. أما باقى الزعامات التاريخية لحركة عدم الانحياز فقد انتهى وجودها وخَفت تأثيرها. لم تعد منطلقات تجمع دول العالم الثالث هى تصفية الاستعمار وإعمال حق تقرير المصير. أمور أخرى استولت على الأولوية وعلى رأسها موضوعات التنمية وتأثير التكنولوجيا واحتكارها، وآثارها في أمور التواصل الاجتماعى، وشؤون التجارة، والاستثمار، والعملة، والمساعدات، والقروض وغيرها. ومن ناحية أخرى يأتى تقييم المشروع الصينى الكبير «الحزام والطريق»، والذى لا منافس غربيًا له يسهم فى مناقشة موضوع الحياد أو عدم الانحياز... ويطيب لى هنا أن أعود إلى موضوع قيادة مثل هذه الحركة، إنْ كان لها حظ الاستيلاد. إن اسم الرئيس لولا يتمثل أمامى اسمًا سويًا... لقد عاد إلى مقعد الرئاسة في البرازيل منتخبًا من أغلبية الشعب البرازيلي، ومتمتعًا بترحيب عالمى حقيقى، وبخاصة من دول العالم الثالث بوصفه رمزًا للاستقلال وممثلًا حقيقيًا ومتحدثًا مفوّهًا باسم العالم الثالث.. هذا ما كان خلال رئاسته السابقة، فهل يكون مستعدًا لتولي هذه القيادة في الحقبة الحالية من الحركة السياسية العالمية؟. إن التطور العالمي يحتاج إلى لولا الذي نعرفه، نحتاج إلى فكره ومواقفه وصلابته، نحتاج إليه كممثل للبرازيل، تلك الدولة النامية الكبرى التي تمارس عبورًا مؤكدًا من وضع النماء إلى وضع الثروة، والانتقال إلى موقع الدول القادرة. هل يمكن لهذا أن يحدث؟.
وأخيرًا وليس آخرًا، ماذا عن مستقبل الشرق الأوسط؟.. هناك الكثير مما يجب أن يُقال، ولكننى سوف أركز على «جديد إسرائيل». إن انحراف إسرائيل نحو التطرف العرقي والديني والمسلكي، واحتمالات التصعيد الدموي ضد الفلسطينيين، سواء كمواطنين إسرائيليين (نحو 20 فى المائة من تعداد إسرائيل)، أو إزاء مواطني الأراضي المحتلة، مما سوف تكون له نتائج خطيرة على مسارات إقليمية كثيرة.. ولكن الخطير أيضًا هو احتمالات التقارب (وربما التحالف) بين القوى الإسرائيلية الحاكمة وشديدة اليمينية، وبين اليمين الأوروبى، واليمين المحافظ الأمريكي (وهما أيضًا شديدا العنف والعنصرية) بما يؤدي إلى اضطراب واسع في الشرق الأوسط وفي حوض البحر الأبيض المتوسط، بل يمكن أن يقيم صلةً مع أطر الحرب الدائرة بين الغرب وروسيا، وأن يشتبك مع فكر الحرب الأوروبية الباردة. إن من شأن ذلك، إذا حدث بالصورة كما أعرضها أو قريبًا منها، أن يُربك العلاقة الأوروبية مع القضايا العربية.
أتوقع اضطرابًا كبيرًا يى الشرق الأوسط عام 2023، تسببه سياسات إسرائيل تحت حكم نتنياهو وأقرانه، بالإضافة إلى سياسات إيران الإقليمية المتجمدة، وكذلك بسبب موقف عدم اليقين الذى سوف تعانيه تركيا بعد الانتخابات الرئاسية القادمة في حالة خسارة أردوغان، بل كما في حالة فوزه الذي لا يُتوقع أن يكون كبيرًا. هل يمكن أن يحدث كل ذلك فى العام الجديد؟. طبعًا ممكن.. ربنا يستر، وكل عام وأنتم بخير.
*عضو «هيئة حكماء إفريقيا» ووزير الخارجية المصري الأسبق والأمين العام الأسبق للجامعة العربية